سامحني يا أبي
كنت أشعر بحاستي . . أن هناك شيء ما سيحصل . .
كل ما يدور تلك الأيام كان يدل على ذلك . .
أبي ترك المنزل . . وأمي تبكي طوال الوقت . .
وهمسات تدور هنا وهناك بين خالاتي . . واتصالات جدية بالهاتف . .
ولم يطل الوقت قبل أن أصدم تماماً بما لم أتوقعه أبداً . . طلاق أمي وأبي . . !
كانت الخلافات بينهما كثيرة جداً . .
وقد تعودت على ذلك منذ طفولتي . .
لكن لم أتصور يوماً أن يتم الانفصال بينهما . .
لا أستطيع أن أصف شعوري لحظتها .. حين أخبرتني خالتي بذلك ..
رغم أني كنت في المرحلة الثانوية.. إلا أني شعرت بأني عدت طفلة صغيرة..
لا تعرف كيف تتصرف ولا كيف تتحكم في مشاعرها..
أغرقتني نوبة طويلة من البكاء .. لم أعرف كيف أوقفها ..
وبقيت أبكي طوال ليلتين متواصلتين..
لم أكن قادرة على تصور فكرة أن ينفصل أبي وأمي عن بعضهما ..
أن يتركنا أبي .. ويعيش بعيداً عنا ..
لم أكن قادرة على تخيل مكانه الخالي على سفرة الإفطار كل صباح قبل ذهابنا لمدارسنا ..
ولا قادرة على تصور المجلس خالياً منه حين يجلس كل مساء
يحتسي قهـوته ويقلبَّ أوراق صحيفته ..
كنت لا أعرف لمن أشعر بالرثاء ..
لأمي المسكينة التي صبرت كثيراً .. وضحّت .. وتحمَّلت منه الكثير ..
ثم تفاجأ الآن بأنه قد تركها وحيدة ..
أم أشعر بالرثاء لأبي المسكين .. الذي لا أعرف أين سيذهب الآن ..
من سيعتني به .. ومن سيصحبه ..
لقد تحمَّل أيضاً هو الآخر من أجلنا ..
لكن شيئاً ما كان يجعلهما غير قادرين على العيش معاً ..
كانا مختلفين تماماً .. في كل شيء..
وكانت حياتهما معاً كمزيج من الزيت والماء ..
مهما امتزجا .. فإنهما لا يختلطان معاً .. أبداً ..
كنت أشعر أني ضائعة ومشتتة بينهما ..
لكن الطلاق .. لم أكن أفكر به أبداً أبداً ..
وفيما بعد .. بعد أن انفصلا تماماً ..
عشنا فترة طويلة ونحن نشعر بفجوة كبيرة في حياتنا ..
كنت أشعر بحزن كبير تجاه أمي .. وتعاطف تجاه أبي ..
لكني أيضاً .. كنت أكن لوماً وعتباً كبيراً على أبي ..
فقد انقطع عنا تماماً .. ولم يحادثنا أو يسأل عنا لمدة شهرين كاملين ..
ولكن بعد فترة .. بدأنا نتأقلم شيئاً فشيئاً مع الوضع ..
انشغلت أمي في دوامها .. وانشغلنا نحن بدراستنا وهواياتنا..
ورغم أن الجرح كان لا يزال في قلبي ..
لكني بدأت أعتاد على لفجوة التي خلَّفها غياب أبي عن البيت..
وذات مرة اتصل علينا أبي .. وحادثني ..
فلم أستطع أن أتحدث ! ..
كنت مشتاقة له جداً .. وأحبه كثيراً ..
لكن.. كنت أيضاً عاتبة عليه ..
إذ تركنا هكذا ونسينا ولم يسأل عنا منذ عدة أشهر ..
شعرت بشيء يخنقني ، فلم أستطع أن أنطق حرفاً واحداً ..
وأخذت أبكي وأبكي حتى سقطت السماعة من يدي ..
ولم أتذكر من نبرات صوته الدافئ سوى ( ربا .. كيف حالك ؟.. لقد اشتقت لكم )
لم أكن أعرف من ألوم على من ألقي ذنب هذا الطلاق ..
ولم أجد سوى ربي لألجأ إليه بالدعاء أن يكتب لنا كل ما فيه خيرنا ..
وفي المدرسة كنت أعاني من الداخل ..
لم أكن قادرة على التركيز ولا المشاركة في الفصل ..
لكن أي معلمة لم تقدّر ظروفي ..
لأني لم أجرؤ على مصارحتهن بما حصل ..
ولم يسألنني بدورهن عن أية مشاكل قد أواجهها ..
ولم أعد أحب أن أجلس مع زميلاتي كثيراً ..
بل أصبحت أؤثر الوحدة أو الجلوس بصمت بينهن ..
كنت أشعر أن في داخلي .. تفكيراً أسود ..
يجعلني أحقد أو أغار من كل زميلاتي حين يتحدثن عن آبائهن ، وعن نزهاتهن الأسرية
حين تقول إحداهن : ( ذهبت مع أبي بالأمس إلى.. )
كنت أشعر بمس كهربائي يلسعني بقوة في صدري ..
وكنت أقول لنفسي كثيراً .. ما هذا يا ربي .. هل أصبحت شريرة لهذه الدرجة ؟
أيعقل أن تحقدي عليهن فقط لأن لديهن آباء ؟
وكنت أستغفر الله في سري دائماً ..
لكن ذلك الشعور كان أقوى مني ..
وكنت أشعر دون إرادتي أني أتمنى لو كنت مكان أي واحدة منهن ..
أو.. أحياناً.. كنت.. كنت أتمنى لو يتطلّق آباؤهم وأمهاتهم كما حصل لي !..
كنت أتمنى أن يذوقوا ما ذقته .. وأن يعيشوا مأساتي ..
....
.....
بعد مدة ..
اتصل أبي مرة أخرى .. وحاول محادثتي ..
لكني رفضت ..
كنت أتمنى في سري أن أحادثه وأعرف أخباره ..
كنت أحبه كثيراً ..
لكن .. كنت عاتبة عليه جداً .. لأنه تركنا هكذا .. بكل سهولة ورحل ..
وحاول أبي عدة مرات زيارتي أو محادثتي ..
لكني وبلا إرادة مني .. كنت أرفض بشدة ..
وازداد تعنتي أكثر وأكثر حين علمت أنه سيتزوج ..
شعرت بأنها الطعنة الأخرى التي يوجهها أبي لنا ..
شعرت بأنه يفعل أمراً خطأ .. أمراً معيباً له ..
كيف يتركنا ويتجاهلنا .. والآن ويذهب لامرأة أخرى ؟
كان تفكيري متجمداً تماماً وغير قابل للتغيير
بدأت أشعر أن أبي هو سبب ما نعيشه من تشتت .. فصببت جام غضبي عليه ..