يعتبر دمج الآلة في الإنسان ، أحد أهم الأفكار التي ركزت عليها قصص الخيال العلمي وأفلام الإثارة الهوليودية الشهيرة ، والتي صورت بعض الكائنات الحية ، نصفها بشري والنصف الآخر عبارة عن أجزاء من روبوتات وآلات ومجسات معقدة الشكل والتصميم.
إن المتتبع للتطورات التقنية ، يدرك أن مثل هذه الأفكار قد وجدت مؤخرا طريقها للتطبيق ، فخلال الخمس سنوات الماضية تم إجراء العشرات من التجارب العلمية لمحاولة دمج الآلة في التركيب البشري الفسيولوجي ، وكان الهدف من ذلك ، انه بمجرد أن تفكر في تحريك جسم موضوع أمامك ، يتحرك مباشرة وفي الاتجاه الذي ترغب به ، وذلك بفضل مجموعة من أجهزة الكمبيوتر الدقيقة والحساسة للغاية والمتطورة.
وفي التجارب التي تم أجراؤها في مدينة تايجون في كوريا الجنوبية ، قام مجموعة من العلماء بتصنيع قبعات خاصة مزودة بمجسات والكترودات ، تراقب موجات الدماغ وترسلها فورا إلى جهاز كمبيوتر متطور للغاية ، والذي يقوم بدوره بتحليل تلك الموجات والتوصل إلى علاقات ودلالات حول طبيعة ونوع تلك الموجات الدماغية ، وبتراكم تلك المعلومات تم تأسيس ما يعرف بالتكنولوجيا التفاعلية وهي التي يتداخل فيها عمل الدماغ بعمل الكمبيوتر ، ويعلق على ذلك بعض الخبراء بقولهم أن عصر الكمبيوتر قد بدأ فيما مضى بما يسمى بالعداد البسيط ، ثم تطور إلى ما يعرف بالبطاقات المثقبة ، ثم تطورت الأمور إلى لوحة المفاتيح والتي لحقت بها الفأرة ، وقد آن الأوان أن يتم الاستغناء عن لوحة المفاتيح والفأرة الأنيقة بمجسات للأفكار ، تستقبل أفكارك فورا وتنفذها بدقة متناهية على أجهزة الكمبيوتر المخصصة لتلك المهام.
تجارب رائدة
طور أحد مراكز البحوث التابعة للمفوضية الأوروبية نظاما كمبيوتريا خاصا بالمعاقين حركيا ، وهو عبارة عن غطاء للرأس موصول بجهاز حاسوب ملحق به مجموعة من المجسات ، وبمجرد أن يفكر الشخص المعاق حركيا في تشغيل أحد الأجهزة الملحقة بالنظام ، فإنه يتم تنفيذ ذلك في الحال ، أيضا فقد تم تصميم نظام شبيه لذلك خاص بطياري الطائرات المقاتلة البريطانية ، ويمكنهم النظام الجديد من قيادة المقاتلات النفاثة بأفكارهم .
ويمكن القول أن من أهم الإنجازات في هذا المجال ، ما تم تحقيقه في مختبر مايغويل نيكوللس في جامعة ديوك في شمال كارولينا الأمريكية ، حيث تم تدريب قردين ليعملا على تحريك ذراع رابوطية بأفكارهما ، وقد تم تحقيق هذا الإنجاز العلمي الفريد من نوعه بالتعاون مع معهد الأبحاث الشهير ماساشوستس للتكنولوجيا ومركز علوم الصحة التابعة لجامعة ستيت في نيويورك ، وتتلخص فكرة التجربة السابقة في أن الباحثين زرعوا الكترودات في المناطق التي تتحكم بالحركة داخل دماغ القردين ، وتم نقل الإشارات الكهربائية الصادرة من الدماغين إلى جهاز كمبيوتر مبرمج لعزل كافة الإشارات الكهربائية الواردة إليه ، والمحافظة على الموجات الخاصة بالحركة ، ثم تم نقل تلك الموجات إلى ذراع كهربائية أطلقوا عليها اسم فانتوم .
تكللت التجربة بالنجاح ، إذ عندما يمد القرد ذراعه ، فإن الذراع الآلية تتحرك أيضا وبالكيفية نفسها التي تحركت بها الذراع الطبيعية ، وقد عمد الباحثون على نقل تلك الإشارات الكهربائية عبر الانترنت إلى مختبر الإنسان والآلة والذي يبعد حوالي 1000 كم عن مركز التجربة ، وتم تجهيز ذراع آلية أخرى هناك ، وقد تحركت تلك الذراع أيضا بنفس الكيفية السابقة.
يقول في هذا الصدد الباحث نيكوللس ، إن النظام سوف يعمل بشكل جيد عند تطبيقه على الإنسان وأن من سيستفيد منه ، المصابون بالشلل ، إذ سيمكنهم النظام من تحريك أطرافهم ، وأيضا سيمكن هذا النظام من فقد أحد أطرافه من الحصول على عضو صناعي قابل للحركة بشكل طبيعي .
تطبيقات مختلفة
إن مثل هذه التكنولوجيا المتقدمة للغاية تفتح المجال أمام الباحثين لتسخيرها في العديد من التطبيقات الحياتية اليومية والتي تخدم البشرية بشكل مباشر ، فبالإضافة إلى استغلالها في مجال الأطراف المفقودة ولمن أصيب بشلل وعجز في نخاعه الشوكي ، فإن الكثير من الباحثين يبدون تفاؤلهم لاستخدامها في شتى مناحي الحياة ، فمثلا سوف تمكنك هذه التقنية من التجول في عالم الانترنت وزيارة أماكن التسوق التجارية وتلمس المعروضات التي تظهر أمامك على الشاشة ومعرفة جودة البضائع التي تشاهدها ، بالطبع فإنه يلزم في هذه الحالة تزويد هذه الأطراف المتحركة بما يعرف بتقنية التغذية الراجعة ، وهي تلك المعلومات والأحاسيس التي على شكل نبضات كهربائية ، والتي سوف تصل إليك من الذراع الآلية ، أيضا يمكن القول أن من أهم هذه التطبيقات سوف يكون في مجال ارتياد الفضاء وإجراء العلميات الجراحية للمرضى عن بعد ، حيث سيتحكم الطبيب الجراح في تلك الأطراف الصناعية عن بعد ، أيضا ستمكن هذه التكنولوجيا الوليدة من تصنيع أناس آليين يتم التحكم بهم عن بعد وتوجيههم للوصول إلى الأماكن الخطرة كالمناطق الملوثة إشعاعيا وداخل المفاعلات النووية والبراكين وفي أعماق المحيطات ، وأيضا سوف تشهد تطبيقات عسكرية هامة جدا ، كاقتحام الأماكن المحاصرة من قبل جماعات متطرفة أو خارجة عن القانون وتحرير الرهائن وتفكيك المتفجرات التي تم زراعتها ، وتنظيف وإزالة الألغام وغيرها الكثير من الاستخدامات في شتى مناحي حياتنا اليومية.
معيقات تصميمية وأخلاقية
بالرغم من الإنجازات التي تحققت في هذا المجال ، فما زال أمام العلماء الكثير من المعيقات الهندسية والتصميمية المعقدة للغاية ، فهل فعلا ستنجح مثل هذه التجارب بشكل كامل إذا طبقت على الإنسان ، وهل ستشكل الالكترودات خطورة على الإنسان عند زراعتها داخل دماغه ، وهل سيتقبل الجسم البشري هذه الأطراف الصناعية ، وهل سنصل في يوم من الأيام إلى أن تسيطر الآلة بشكل كامل على الجنس البشري وخصوصا في ظل ما تم إنجازه من تقدم مذهل في مجال الذكاء الصناعي.
أيضا فإن إدخال مثل هذه التقنية إلى حيز التطبيق الفعلي يثير لدى المفكرين الكثير من التساؤلات الأخلاقية ، وفي مقدمتها إلى أين تقودنا التقنية الحديثة وما هي حدود قدرات الجسم البشري وهل تصنيع الإنسان الفائق القدرات superman على وشك التحقق خلال العقود القليلة القادمة.
إن المتتبع لمجريات تطور مثل هذه التكنولوجيا يدرك بشكل واضح أنها الخطوة الأولى التي يتم إنجازها على طريق الدمج الكامل بين الإنسان والآلة ، و بين الدماغ البشري والكمبيوتر ، ومن يدري ما سيحمله المستقبل من تحديات جديدة للجنس البشري قد تهدد وجوده واستقراره على هذا الكوكب.
من مجلة آفاق