أغراض الشعر وأسلوبه ومعانيه
أولاً: ا لأغراض:
ذكرنا سلفا أن البارودي كان المجدد الأول في العصر الحديث، وأن تجديده قد تمثل في العودة بالشعر إلى عصور الازدهار، وبذا أحيا في الشعر ما اندرس من أغراضه الشريفة، كشعر الفخر، والحماسة، ونحوها ولم يزد على أن توسع في بعض الأغراض وبخاصة في وصف آثار مصر، ووصف الطبيعة كما يراها هو، وجاء بعده أناس تبعوه في ألفاظه وأساليبه.
أما الأغراض فقد وقفوا منها موقفاً أملته طبيعة عصرهم، حيث أقبلوا على بعضها كالوصف والمدح، وأعرضوا عن بعضها كالحماسة والفخر، وتوسطوا في مثل الهجاء، على نحو ما سنذكر لك فيما يلي:
(أ) الوصف: يعد الوصف من الأغراض الأصيلة في الشعر العربي، حيث طرقوا به كل ميدان قرب من حسهم أو إدراكهم أو قام في تصورهم، ولذا لم يكن عجيباً أن يقبل شعراء العصر الحديث عليه أكثر من إقبالهم على أي غرض، فلقد وصفوا الرياض والأشجار والبحار والأنهار، وكل مظهر من مظاهر القبح والجمال أثار في نفوسهم إعجابا أو إنكارا.
وأكثر ما تجد الوصف في شعر شوقي، ومطران، وأمثالهما من شعراء الجمال، من ذلك قول شوقي في وصف البحر في قصيدته الهمزية التي صدر بها الديوان.
همَتِ الفُلْكُ واحْتَواهَا الماءُ وحَدَاهاَ بِمَنْ تُقِل الرجَاءُ
ضربَ البحرُ ذو العُبابِ حَواليـْ ـها سَماءً قد أكْبرتْها السماءُ
ورأى المارقونَ من شَرَكِ الأرْ ض شِباكاً تَمُدُّها الذَأْماءُ
وَجِبَالا مَوَائجاً في جِبَالٍ تَتَدَجًى كَأنها الظًلْمَاءُ
ودَوِيًا كما تأهًبَتِ الخيـ ــلُ وهاجتْ حُمَاتَهما الهيجاءُ
لجًة عند لُجةٍ عنْد أخْرى كهضاب ماجت بها البيداء
وسَفينٍ طوراً تلوحُ وحيناَ يتولى أشباحهنً الخفاء
نازِلاتِ في سيرهَا صاعداتٍ كالهوادي يهزهُنَ الحداءُ
" ربً " إِنْ شئْتَ فالفضاءُ مضِيُق وإذا شئْت فالمضيقُ فضاءُ
(ب) المدح: وهو فن أصيل في الشعر العربي، عرفت شأنه فيما سلف، وفي مطلع الحصر الحديث سار الشعراء في مدحهم على سنن أسلافهم، وسار الممدوحون على طريق من سبقهم في إجزال الهبات والمنح ولذا بلغ الشعر في العصر الحديث منزلة حسنة، ثم إن شعراء العصر الحديث اهتموا بالمعاني السامية والصفات الحميدة، ككَرم النفس وسماحة الخلق، وكالعفة، وبعد النظرة وعمق الخبرة، والدهاء، وما إلى ذلك مما يناسب ذوق العصر ويرتاح له الممدوح.
وقامت حملات ضد شعراء المناسبات، فأخذ الآراء يتجافون عن سبيله قليلاً رغم وقوف فحول الكاتبين والناقدين في وجه تلك الحملات، ثم إن شعراء المدح قد عنوا بمدح النبي صلى الله علية وسلم فأكثروا من ذلك، حتى إنك لا تكاد تجد شاعرا إلا وله في ذلك أكثر من قصيدة، ومما يِتصل به مدح الأماكن الفاضلة مثل قصيدة شوقي في مدح الأزهر.
قمْ في فمِ الذُنْيا وحيّ الأزهرا وانثر على سمع الزًمان الجَوْهَرَا
واجعلْ مكانَ الدُّرً إِنْ فصًلْتًهُ في مدْحه خرز السماءِ النيًرَا
(جـ) الرثاء: والرثاء أيضًا من الأغراض الأصيلة في الأدب العربي، وهو أكتر اتصالا بالمشاعر الإنسانية بعامة، ولذا نجده يزدهر في العصر الحديث أكثر منه في غيره، فلقد رثى الشعراء العلماء والزعماء والأقربين، كما رثوا المدن والدولة، مثل ما صنع الأندلسيون مثلا، إلا أنهم أكثروا من ذلك وأطالوا فيه، كصنيع شوقي في رثاء المدن التركية، ورثاء الخلافة، وقد يرثي الشخص بأكثر من قصيدة؟ كصنيع حافظ إبراهيم حين رثى الإمام محمد عبده بخمس قصائد، وقد ينظمون الرثاء في تافه الأمور، كصنيع مطران حين رثى زهرة ذبلت فسقطت فانتهت.
ومما يلحظ في رثاء هذا العصر التفريق بين الندب والتأبين والعزاء. والتعمق في الحديث عِما يسمونه فلسفة الموت، وذلك كثير عند شوقي وبخاصة في رثائه لأبيه من مثل قوله:
يا أبي والموتُ كأس مُرَّةٌ لا تَذوقُ النفسُ منها مَرتَيْنْ
كيف كانتْ ساعة قضَيْتَها كل شيء قبْلَهَما أو بَعْدُ هَيْنْ
أشَرِبْتَ الموتَ فيها جرْعة أمْ شَربْتَ الموتَ فيها جُرْعَتَيْنْ
(د) الغزل: وهو من الفنون التي كان لها شأن عند العرب وازداد شأنها في العصر الحديث، بل لقد وجد من الشعراء من انقطع لهذا الفن وقصر شعره عليه، مثل إسماعيل صبري، ومنهم من كان في غزله تجديد لسنن الشعر، كالتعبير عن شكوى بثه وآلام نفسه، وذلك تجده عند الرافعي في مثل قوله:
من لِلْمُحبِّ ومن يُعينُه والحبُ أهْنَؤهُ حَزِينُهْ
أنا َما عَرفْتُ سِوىَ قَسَاوَتهِ فَقُولوا كيفَ لِينهُ
إن يُقْضَ دينُ ذوي الهَوَى فَأنَاَ الذِي بَقِيَتْ دُيوُنة
قَلبِي هُوَ الذهبُ الكرِيمُ فلا يُفَارِقُه رَنينُه
ومما يلحظ في غزل أهل هذا الزمان سيطرة الألم والحزن والنظرة المتشائمة فيما نظموا وهذا كثير في شعرْ عبد الرحمن شكري، وإبراهيم ناجي.
(هـ) الفخر والحماسة: وهذان غرضان كان لهما شأن جليل في شعر الأسلاف. أما شعراء العصر الحديث فقد انصرفوا عنهما إلى ما يسمى الشعر الوطني، وإذا فخروا فبأمجاد العرب والمسلمين، وهو كثير عند محرم وشوقي، اللهم إلا ما كان من أمر البارودي الذي فخر وحمس، لأنه كان قائداً غشى ميادين الحرب منازلا الأقران، ولذا جاء في شعره مثل قوله:
إذا استَلَّ منا سيًد غَرْبَ سَيْفِهِ تَفَزعَتِ الأفلاكُ والتفتَ الذَهرُ
(و) الهجاء: وهو من الأغراض التي قل شأنها في هذا العصر، حيث ترفع عنها الشعراء، وبخاصة الهجاء الشخصي، اللهم إلا ما ندر، وهو متعفف في لفظه، ومنه هجاء أعداء الأمة، وأعداء الإسلام، كهجاء الاستعمار ورجاله، وهو كثير في شعر محرم وحافظ وغيرهما.
وإذا هجوا الأشخاص عابوهم بأخلاقهم وصفاتهم الخُلُقية والنفسية، كصنيع شوقي حين هجا مصطفى كمال التركي.
وقد يأتي منهم ما يخالف ذلك ولكنه يكون على سبيل التندر ومنه قول حافظ إبراهيم في هجاء كتبي:
أديمُ وجهِك يا زنديقُ لو جُعِلَتْ منه الوقايةُ والتَجَليدُ للكُتُبِ
لَمْ يَعْلُها عنكبوت أينما تُرِكَتْ ولا تُخَافُ عليها سَطْوةُ اللَهبِ
(ز) الشعر الوطني: ويعنون به ذلك الشعر الذي يصور آلام المواطنين، وآمالهم ونظرتهم إلى المستعمرين وأعداء البلاد، ولذا نجده يمتزج ببعض شعر الهجاء، كالذي ذكرناه هناك من شعر حافظ وشوقي، ولا تكاد تجد شاعراً من أهل هذا العصر إلا وله من هذا الفن نصيب، وأشهرهم في ذلك الشيخ عبد المطلب، ومحرم، ومن أيسر قصائدهم في ذلك دالية حافظ إبراهيم [مصر تتحدث عن نفسها]، ومطلعها:
وَقَفَ الخلقُ يَنْظُروْن جَمِيعاً كَيْفَ أبْني قَوَاعِدَ المَجْد َوَحْدِي
(ح) الشعر الاجتماعي: ويعدونه من الأغراض الجديدة رغم وجود شيء من ذلك في أيام العباسيين ومنه ما نقرؤه في شعر المعري.
غير أن شعراء العصر الحديث قد أكثروا من نظم الشعر في أحوال المجتمع، والدعوة إلى إصلاح ما فسد من أوضاعه، فتحدثوا عن الفقر وأسبابه، وعن الخيانة لدى المهندسين والأطباء والعلماء والفقهاء وغيرهم، كما تحدثوا عن الخرافات وسيطرتها على المجتمع، ونظموه في تعليم الفتاة وبناء الجمعيات وإمدادها، وغير ذلك.
وأشهر الشعراء في ذلك حافظ إبراهيم، وأحمد الزين، وأحمد شوقي، ومنه قول حافظ في الأضرحة والتقرب إلى أربابها والشكوى من الفقر:
أحيَاؤنُا لا يُرزَقونَ بدرهمً وبألف ألفٍ تُرزَقَ الأمواتُ
مَنْ لي بِحّظِ النائمين بحُفرةٍ قَامَتْ عَلىَ أحْجَارِها ا لصَّلواتُ
(ط) الشعر التاريخي والتعليمي: وهذا غرض نظم فيه بعض السابقين مثل، أحمد بن عبد ربه صاحب العقد، غير أن ما أتى به شعراء هذا العصر يختلف كثيراً عما كتب ابن عبد ربه وأمثاله، ذلك أن الأول أشبه بنظم العلوم، أما عند المتأخرين فإنه قد ألبس ثوباً شاعريا حسناً على نحو ما نقرؤه في ديوان " مجد الإسلام " لأحمد محرم، وأدول العرب وعظماء الإِسلام، لشوقي، والعمرية لَحافظ إبراهيم.
(ى)- الشعر الوجداني: ويعنون به ذلك الشعر الذي ضمَّنه أصحابه آلام نفوسهم وآمالهم، واستودعوه همومهم وأثقال أرواحهم، فأتوا فيه بما لم يألفه- كثرة - الشعر العربي القديم ولعل هدا الاتجاه في شعر المتأخرين إنما كان نتيجة تأثرهم بالآداب الغربية التي سيطرت النظرة التشاؤمية على أكثر أشعارها حتى صاروا يجِنحون إلى البكاء ويرتاحون إلى الأنين، ومن أبرز شعراء العصر في هذا عبد الرحمن شكري، والمازني؟ وأحمد زكي أبو شادي.
(ك)- أما أجل هذه الأغراض وأسماها فإنه الشعر الديني. وقد أخرنا الحديث عنه إلى الحديث عن شعر الدعوة الإسلامية وسيأتي إن شاء الله.