بسم الله الرحمان الرحيم
يا من أسره الهوى
يا من قد أسره الهوى فما يستطيع فكاكا! أفق من رقدتك وإلا فها هو قد أدركك إدراكا، قبل أن لا ينفع البكاء الباكي ولا التباكي من تباكى.
لأبي العتاهية رحمه الله:
بليــت ومــا تبلى ثياب صباكا *** كفـاك نذير الشيب فيك كفـاكا
ألم تر أن الشيــب قد قام ناعيـا *** مقام الشـباب الغض ثم نعاكا
ولم تر يــوما مــر إلا كــأنه *** بـإهلاكه للهــالكين عـناكا
ألا أيها الفـاني وقد حــان حينه *** أتطمع أن تبـقى فلست هنـاكا
تسمع ودع من أفسد الغي سمـعه *** كــأني بداع قد أتى فــدعاكا
ورب أمــان للفتى نصـبـت له *** المـنية فيما بينــهن شـراكا
أراك وما تنفــك تهــدي جنازة *** ويوشك أن تهـدي هديت كذاكا
ستمضي ويبقى ما تـراه كما ترى *** وينسـاك من خـلفـته هو ذاكا
ألا ليت شعري كيف أنت إذا القوى *** وهب وإذا الكرب الشـديد علاكا
تموت كما مــات الذيـن نسيتهم *** وتنسى ويهوى الحي بعد هواكا
كأن خطوب الدهــر لم تجر ساعة *** عليك إذا الخطب الجلـيل أتاكا
ترى الأرض كم فيـها رهون دفينة *** غلقـن فلم يقـبل لهن فكـاكا
كم سكن قبلك في هذه الدار، فحام الموت حوم حماهم ودار، ثم ناهضهم سريعا وثار، كأنه ولي يطلب الثأر، وقد خوفك بأخذ الصديق وسلب الجار، ومن أنذر قبل هجومه فما جار.
يا هذا! العمر عمر قليل، وقد مضى أكثره بالتعليل، وأنت تعرض البقية للتأويل، وقد آن الآن أن يرحل النزيل. ما أرخص ما يباع عمرك! وما أغفلك عن الاشتراء! والله ما بيع إخوة يوسف يوسف بثمن بخس. يا عجب من بيعك نفسك بمعصية ساعة، متى ينتهي الفساد؟ متى يرعوي الفؤاد؟
يا مسافرا بلا زاد لا راحلة ولا جواد! يا زارعا قد آن الحصاد! يا طائرا بالموت يصاد! يا بهرج البضاعة أين الجياد؟ يا مصاب الذنوب أين الحداد؟ لو عرفت المصاب فرشت الرماد، لو رأيت سواد السر لبست السواد، جسمك في واد وأنت في واد. نثر الدر لديك وما تنتقي، وقربت المراقي إليك وما ترتقي، لقد ضيعت ما مضى وشرعت في ما بقي، يا واقفا في الماء الغمر وما ينقى! إن قلت: قم، قال: رجلي ما تطاوعني، أو قلت: خذ، قال: كفى ما تواتيني.
واعجبا لنفاسة نفس رفعت بسجود الملك لها كيف نزلت بالخساسة حتى زاحمت كلاب الشره على مزابل الذل! هيهات! لن تفلح الأسد إذا أنفقت عليها الميتات الفسد.
يا هذا! جسدك كالناقة يحمل راكب القلب، فلا تجعل القلب مستخدما في علف الراحلة. تالله إن جوهر معناك يتظلم من سوء فعلك لأنك قد ألقيته في مزابل الذل. ماء حياتك في ساقية عمرك قد اغدودق ، فهو يسيل ضائعا إلى مهاوي الهوى، وينسرب في أسراب البطالة، فقد امتلأت به خربات الجهل ومزابل التفريط، وشربته أدغال الغفلات. ويحك! اردده إلى مزارع التقوى لعله يحدق نور حديقة. إلى متى يمتد ليل الغفلة؟ متى تأتي تباشير الصباح؟
هل الدهـر يوما بوصل يجود *** وأيـامنا باللوى هل تعـود
زمان تقــضي وعيش مضى *** بنـفسي والله تلك العهـود
ألا قل لسكــان وادي الحبيب *** هنيئا لكم في الجنان الخلود
أفيضوا عليـنا من الماء فيضا *** فنحن عطـاشى وأنتم ورود
لما سبق الاختيار لأقوام في القدم، جذبوا بعد الزلق في هوة الهوى إلى نجوة النجاة.
يا عمر، كيف كانت حالك؟ قال: كنت مشغولا بهبل، فسمعت هتاف: (ففروا إلى الله)، فعرجت على المنادي فإذا أنا في دار الأرقم.
يا فضيل، من أنت؟ قال: أخذت من قطع الطريق فأخذت في قطع الطريق.
يا عتبة الغلام، من أنت؟ قال: كنت عبد الهوى، فحضرت مجلس عبد الواحد، فصرت عبدا للواحد.
يا سبتي، من أنت؟ قال: كنت ابن الرشيد، فعرض لي رأي رشيد، فإذا عزمي قد أخذ المر ومر.
يا ابن أدهم، من أنت؟ قال: أخذني حبه من منظرتي، فصيرني ناطور البساتين.
يا رابعة، من أنت؟ قالت: كنت أضرب بالعود فما سمع غيري.
بالله يـا ريح الصبا *** مري على تلك الربا
وبلغي رســــالة *** يفضـها أهـل قبا
واحـربا وهل يـرد *** فـاتيا واحـــربا
يا طفلا في حجر العادة محصورا بقماط الهوى! مالك ومزاحمة الرجال؟ تمسكت بالدنيا تمسك المرضع بالظئر، والقوم ما أعاروها الطرف. ما لك والمحبة وأنت أسير حبة؟ كم بينك وبينهم؟ وهل تدري أين هم؟
ســلام على تلك المعــاهد إنهـا *** شريعة وردي أو مهب شمـالي
ليــالي لم نحــذر حزون قطيـعة *** ولم نمش إلا في سهول وصال
فقد صرت أرضى من سواكن أرضها *** بخلب برق أو بطــيف خيـال
سار القوم ورجعت، ووصلوا وانقطعت، وذهبوا وبقيت، فإن لم تلحقهم شقيت.
لبس البيـاض بذات غرق معشر *** ولبست من حزن ثياب حـداد
وصلوا إلى عرفات يبغون الرضا *** وبقيت منكسرا ببـطن الوادي
رفعوا أكــفهم وضجوا بالدعـا *** وضممت من كمد يدي بفؤادي
يا من كلما استقام عثر! يا من كلما تقرب أبعد! استسلم مع الحرية واستروح إلى دوام البكاء، وصح بصوت القلق على باب دار الأسف:
ليس لي فيــك حيلة *** غير صبري على القضا
وبكائي على الوصـال *** الذي كـان وانقـضى
ليـتني تبـت توبــة *** وقضى الله مــا قـضى
مصدر المقال : من كتاب "المدهش" لأبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله