تمهيد:
إن النهضة الجزائرية لم تكن وليدة الصدفة، بل جاءت كمحطة لجهود علماء جزائريين ومثقفين، حاولوا انقاض المجتمع الجزائري من حالة التعفن والتخلف والجهل التي وصل إليها من جراء كثرة البدع والخرافات والانحرافات، ولقد تولى مهمة محارية هذه البدع و أحداث الانبعاث الثقافي في الجزائر الكولونيالية مجموعة كبيرة من المصلحين والعلماء والمثقفين، سنتطرق لبعض منهم في هذا الفصل.
I. عبد القادر المجاوي:
ولد عبد القادر المجاوي سنة 1848 بتلمسان، أما نسبه فهو عبد القادر ابن عبد الله بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الرحمان بن عيسى بن داود بن أبي حناش بن خمليش بن علي بن محمد بن عبد الجليل المحسيني، الملقب بالمجاوي نسبة إلى قبيلة مجاوة، التي تقطن حول مدينة تازة بالمغرب الأقصى، وقد استوطن جده تلمسان وعمل نساخا بها.
ولد المجاوي في أسرة اشتهرت بالمكانة العلمية، كان والده محمد عبد الكريم قاضيا في تلمسان نحو خمس وعشرين سنة، بعد دراسة في مسقط رأسه، انتقل لمتابعتها في كل من تطوان، وطنجة بالمغرب الأقصى، وقد تركزت دراسة فيها حول: العلوم الشرعية وآداب اللغة العربية وغيرهما ... ثم التحق بالقرويين لمتابعة دراسته، ودرس فيها الفقه وأصوله، والفرائض والتفسير، الحديث الشريف، واصطلاحه المنطق وعلوم البلاغة والتصوف ... بالإضافة إلى علم المنطق والحساب والفلك والتاريخ والأدب ورغم قدراته الذاتية في التحصيل حيث ذكرت جريدة الفاروق: "إن كل كتاب يقراه لا يعيد قراءته".
ويتبين مما تقدم أن الوسط الذي عاش فيه المجاوي ونوعية الدروس التي انكب عليها، بالإضافة إلى استعداداته الفطرية، وتأثره بالوضع الذي كانت تعيشه بلاده، والذي ازداد سوءا في ظل السيطرة الفعلية للمعمرين، كل هذه الأمور لعبت دورا حاسما في تحديد توجه ووسائله في ميدان العمل الإصلاحي.
لقد لمس فيه شيوخه بفاس، كفاءة علمية ومثابرة على العمل، لذلك أجازوه للتدريس مع العلم أن تلك الإجازة لا يحصل عليها إلا العلماء المقتدرين، واتصف المجاوي بصفاء النفس، وكرم الطبع والجرأة والإقدام وقوة الإرادة بالإضافة إلى الفصاحة والتواضع، كما كان متماسكا بدين، معتزا بشخصيته الإسلامية، وغيورا على دينه ولغته العربية حتى بين الأوساط الأوربية.
ولقد كانت للدعوة الإصلاحية بالمشرق العربي اثر كبير على تكوينه الشخصي حيث كان احتكاكه بها عند أدائه الحج قبل أن يستقر بالجزائر، ولا يجب إغفال تأثير النهضة التي كان يعيشها المشرق العربي خاصة في جانبها الأدبي كان لها اثر على حياة المجاوي، خاصة الإثراء الثقافي والاهتمام بالدراسات اللغوية، والدليل على ذلك أن معظم مؤلفاته ركزت على اللغة العربية وعلومها.
أما فيما يخص نشاطه الإصلاحي، فنجد جهوده العلمية والإصلاحية قد تبلورت في عدة ميادين وهي التربية والتعليم والصحافة والتأليف، أما فيما يخص التربية والتعليم فنجد بعد عودته إلى الجزائر واستقراره بقسنطينة في حدود سنة 1869 سيقوم بنشاط ثقافي بارز، حيث باشر بالتعليم في مساجدها وزواياها واستطاع أن يساهم بحركته هذه في إحياء نهضة علمية في المنطقة، "... أحييت النفوس وأنعشت الروح..."، إن التعليم المسجدي قد فرضته ضرورة وذلك تحت هدف المحافظة على الشخصية الإسلامية، خاصة أمام محاولات إدارة الاحتلال الإدماجية، وتزايد خطر التعليم التبشيري.
ولم يقتصر عمله فقط على التعليم المسجدي، بل تعداه إلى المساهمة في تنشيط المدارس الحرة، وارتكز نشاطه عرضت عليه الإدارة الفرنسية العمل كإمام بجامع سيدي الكتاني، حتى يكون تحت نظرها، وقبل بهذا المنصب، كما عمل أيضا كمدرس بالمدرسة الكتانية، وفي سنة 1878 درس بها مختلف العلوم، كتحفيظ القران، الحديث، الفقه، المنطق، الأدب، وعلم الفلك والحساب.
وفي حدود سنة 1898 عينته الإدارة الفرنسية في المدرسة الثعالبية، قد يكون ذلك بهدف وضعه تحت رقابتها المباشرة بالعاصمة، لقد واصل المجاوي نشاطه بالعاصمة، وساهم في تدعيم الجو الثقافي بها، إلى جانب كوكبة من الأساتذة مثل: عبد الحميد بن سماية، المفتي بن زكري، الحفناوي... وكانت العاصمة في هذه الفترة تعاني من الجهل وآثاره والفساد المنتشر بها بدرجة كبيرة، فكان عليه مضاعفة جهوده الإصلاحية واهتم بالتربية الدينية والخلقية، وغرس العقيدة الإسلامية الصحيحة في نفوس تلاميذه ... كما اثر على الحياة الثقافية في العاصمة عن طريق المؤسسات والنوادي والجمعيات.
لقد أنتج المجاوي مصلحين وعلماء واصلوا عمله الإصلاحي مثل: السعيد بن زكري، الشيخ عمر بن دراجي قاضي الحنفية بالجزائر، وابرز تلامذته: محمد المولود بن الموهوب، وبالموازاة مع نشاطه التعليمي فقد ساهم المجاوي في الحركة الصحفية، حيث ساهم في كل من: المنتخب، جريدة المغرب 1903، شارك في جريدة كوكب إفريقيا في الفترة ما بين (1908-1909).
أما عن المواضيع التي عالجها في مقالاته، فلقد تنوعت مواضيعها الإصلاحية، فنجد له مقالات جاءت تنادي بالإصلاح في مجال العقيدة والعبادات، فدعا إلى محاربة البدع وحمل العلماء مسؤوليتهم في محاربة البدع عن طريق الإرشاد ونجده قد تحمل مسؤوليته كعالم في هذا الجانب.
أما في الجانب الاجتماعي فنجده كغيره من المصلحين حارب مختلف الإمراض الاجتماعية التي انتشرت وسط الجزائريين، فلقد عالج عدة موضوعات ومن بينها كان القمار الذي ينتهي بصاحبه إلى الهلاك المادي والأخلاقي ويظهر في قوله: "فلا تجد قمارا لابسا ثوبا حسنا، فضلا عن غيره من الضروريات وقرنه الله تعالى بالخمر في التحريم لشدة جرمه ولأنه من الكبائر".
ومن أهم القضايا التي نالت القسط الأوفر من اهتمامات الشيخ عبد القادر المجاوي هي التربية، فلقد برزت شخصيته كمربي في هذا المجال، فحاول أن يعطي منهجا للتربية، قائما على أسس علمية حديثة كما خصص جزء من اهتماماته للمربي، باعتباره طرفا في العملية التربوية، واهتم أيضا إلى جانب كل هذا بالناحية الاقتصادية وحـث الجزائريين على تقليد الغربيين فيما توصلوا إليه في هذا المجال، والعلـوم الحديثة.
توفي الأستاذ عبد القادر المجاوي بقسنطينة في 06 أكتوبر 1914 تاركا وراءه اثر طيبا، من تلامذته العلماء الذين واصلوا دربه، وآثار تمثلت في الكتب والمؤلفات القيمة للشيخ والتي اختلفت نوعا وكيفا.
Ii. محمد بن مصطفى بن الخوجة:
درس في الجزائر على يد الشيخ محمد بن السعيد بن زكري، وهو الأخير يعتبر احد الدعاة إلى التجديد في ميدان التعليم، واحد من النخبة المحافظة، ولقد كان بن الخوجة شديدا على أهل البدع وكان يرى أن العودة والتمسك بالدين الإسلامي كفيل بإنقاذ الجزائريين من الغرق في المدنية الغربية... ولكن هذا لا يعني أن بن خوجة قد انغلق على نفسه ولم يقبل الحضارة بل كانت نظرته عقلانية لمسائل العصر، وكرس حياته لخدمة الإسلام والوطن.
لقد كان بن الخوجة من المؤمنين بالأخذ بأفكار المصلحين المشارقة والتي يمكن عن طريقها إصلاح المجتمع، ولقد كان بن الخوجة احد تلاميذه الشيخ محمد عبده، ولذلك نجده كان مهتما بكل ما كان يصدر عن المشارقة وجرائد ومجلات مثل المؤيد والمصباح الشرق، المنار وغيرها من المنشورات التي تصل إلى الجزائر، وكانت هذه الأفكار عمله الإصلاحي والقاعدة التي يعتمد عليها في ذلك.
ألف بن الخوجة كتابه "إقامة البراهين العظام على نفي التعصب الديني في الإسلام"، ابرز من خلاله على ضرورة التخلي على العقلية المتحجرة والجمود الذي ساد الشعب ودعا المصلحين إلى تولي دورهم في المجتمع والذي يتمثل في الإصلاح والدعوة إلى النهوض به وذلك من خلال العودة إلى القيم والتعاليم الإسلامية وحذف ما هو زائد ومبتدع لا علاقة له بالأصل.
ولقد كان بن الخوجة من الأوائل الذين نادوا بإصلاح شؤون المرأة الجزائرية وتحريرها من الجهل في الحدود التي وضعها الدين الإسلامي، وقد ألف كتاب بعنوان "الاكتراث في حقوق الإناث"، يهدف من ورائه إبراز مكانة المرأة في الإسلامي، ويقنع به الجزائريين أن يعدلوا عن سلوكهم المعادي للمرأة وتحريرها من الجهل، كانت معالجته لموضوع المرأة في كتابه هذا معتمدا على آيات قرآنية وأحاديث نبوية، تبين مكانتها في الإسلام.
وألف كتاب "اللباب في أحكام الزينة واللباس والاحتجاب" حارب من خلاله البدع والخرافات والمعتقدات الباطلة والشائعة بين الشعب، وبين أثارها السلبية على المجتمع وتعرض أيضا في كتابه إلى قضية المرأة مرة أخرى.
لقد عاب بن الخوجة على الجزائريين قصور نظرهم في أمر دينهم ودنياهم وكيف أنهم أصبحوا يعزفون عن الذهاب للأطباء غير المسلمين بحكم أنهم كفار فبين ابن الخوجة في رسالة سماها "تنوير الأذهان" ألفها خصيصا لهذا الغرض، حيث حاول من خلال رسالته هذه التي اعتمد فيها على الأدلة القرآنية والأحاديث النبوية طالب من الشعب التخلي عن هذه العادة التي لا تمت بصلة إلى تعاليم الإسلام ودعا الشعب إلى الاستفادة من الأطباء غير المسلمين.
وما يمكن القول أن بن الخوجة كان له اثر كبير في حركة الإصلاح في الجزائر، وساهم بن الخوجة في حركة الأحياء التاريخية بوضع آثار الشيخ عبد الرحمان الثعالبي بين يدي المسلمين في الجزائر وكل إفريقيا، ولقد نشر آثار الثعالبي في قاموس طبع في الجزائر سنة 1910 بالمطبعة الثعالبية.