إذا كنت رجلا فلا تبكِ؛ فدموعك غالية، والرجال لا يبكون!
وقد حفظنا أن البكاء من طبعنا نحن معشر النساء، فإذا تخيَّلْتَ أن تُحَرِّكَ الريحُ الجبل، فقد يبكي عندها الرجل!
هذه بعض الكلمات التي شُحِنَ بها الرجل وهو طفل صغير، فجعلت من دموعه كحبات لؤلؤ باهظة الثمن، يحرص على الحفاظ عليها، كحرصه على إبقاء قُوَّتِهِ وهيبته أمام الآخرين، مما جعل بكاءه أمام الناس- في ذهنيته الشرقية- ضعفًا ونقصَ رجولة، جعلته يحرص على مداراة مشاعر الحزن والألم عمن حوله قدر ما يستطيع، حتى لو كانت بركانًا ثائرًا يموج في أعماقه، وحتى لو كان في البكاء راحةٌ له بعض الشيء!
فقد أشارت الدراسات النفسية إلى أن البكاء يحدُثُ نتيجة ضغط نفسي شديد يمر به المرء، ولا يستطيع تحمله، فيلجأ إلى البكاء؛ ليشعر بعده بالراحة وصفاء النفس، حتى ولو كانت المشكلة ما زالت قائمةً، فمجرد إخراج شحنة الحزن المكبوتة داخله يُشْعِرُه بالراحة، ثم يبدأ بعدها في التفكير بمنطق وحكمة، فمتى يصل الرجل إلى لحظة البكاء الغالية؟! ومن يا ترى يَقْبَلُ بكاءه هذا ؟ هذا ما نعرفه خلال السطور الآتية:
معاني جديدة
يقول د. علي ليلة، أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة عين شمس : يبكي الرجل عندما يواجه أزمة كبيرة تُزَلْزِلُ وجودَهُ، وتلمس عواطِفَهُ وعَقْلَهُ، وتُغَيِّرُ مسار حياته إلى حد كبير، لذلك لا يبكي الرجال أمام مواقف عادية ومألوفة لديهم، كمشاكل العمل، أو مرض أحد الأبناء، وغيرها من متغيرات الحياة.
ولكن عندما يتعرض الرجل لمشكلة كبيرة أو أزمة شديدة، تنقلب معاني الأشياء، وتكسب حياته معاني جديدة، فهنا تنهمر دموعه، حتى ولو كان أقوى الرجال!
ولا عجب أننا شاهدنا بكاء الرجال الأقوياء لما حدث في غزة من مجازر وحشية حصدت أرواح الأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء، فلم يستطع أحدٌ أن يصمد أمام رؤيتها، فكنا نبكي، بل وننتحب لما نراه، فما بال مَنْ عاش هذه الويلات، واكتوى بنارها الحارقة؟!
ويضيف د . على: يبكي الرجل عندما يَطْعُنُ في السن، ويَضْعُفُ عن مواجهة الحياة، ويشعر أنه أصبح ثِقْلًا عليها وعلى مَنْ حوله، خاصةً إذا لم يجد منهم الدفء والحنان والتعويض المعنوي الذي ينتظره في هذه السن.
يبكي الرجل عندما يعتدي ابنٌ على أبيه، أو عندما يخيب أمله فيه، فيفقد منه معاني البر والرحمة والعطف والاحترام، فتنقلب الأشياء، ويصبح الابن هو المسيطر والقوي، ويصبح الأب هو الضعيف الواهن.
ونحن نجد أن الرجل كلما تَقَدَّم في السن يميل للرقة والبكاء، والعكس يحدث مع المرأة كثيرة البكاء، فهي تميل إلى التَّعَقُّلِ، والتفكير بعمق، والقدرة على تدبير الأمور بشكل أفضل!
ويوضح د . علي أن الإنسان يَمُرُّ في حياته بعدة مراحل، يبدؤها بالطفولة، وينهيها بالكهولة، وكُلٌّ منهما له خصائص مُتَقَارِبَةٌ من الضعف، والوهن، والحاجة الدائمة إلى الغير، وكذلك سرعة التأثر، والحساسية المفرطة، وعدم التحمل، وكثرة البكاء.
وأما مرحلة الشباب والرجولة فمن أقوى المراحل في حياة الإنسان، فهي المرحلة التي يكون فيها قَوِيًّا متماسكًا قادرًا على الكسب، وقد لا يحتاج مساعدة غيره كثيرا، وهي فترة التفاعل مع الحياة، والتعامل مع كافة أنواع البشر؛ لذلك كان من الحكمة أن ينشأ الطفل على مقولة: لا تبكِ؛ فأنت رجل؛ حتى يظل متماسكًا قويًّا، لا يَهْتَزُّ مهما عصفت به المحن والأزمات؛ ولكي يظل دائما مصدر القوة والأمان لزوجته وأبنائه، فالرجل هو ربان السفينة الذي يجب أن يحافظ عليها، ويصل بها إلى بَرِّ الأمان، فلا يمكن أنه كلما مرت عليه أزمة بكى، وإلا غرقت السفينة ومَنْ عَلَيْهَا في بحر من الدموع .
عَيْنٌ بكت
يقول د .جاد مخلوف أستاذ اللغة العربية بكلية الدراسات الإسلامية والعربية -جامعة الأزهر: إن الرجال يبكون مثلهم مثل النساء، ولكنهم متفاوتون في هذه المسألة، فالمرأة ذات عاطفة جياشة، تحكم على الأمور بقلبها غالبًا وليس بعقلها، لذلك تكون سريعة التأثر، قريبةَ الدمع، وقد تُعَدُّ الدموع وسيلةً لدفاعها عن نفسها، أو لبيان حجتها؛ لأنها أضعف من الرجل في ذلك، وقد بَيَّنَ القرآن الكريم ذلك في قوله تعالى: ( أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ) .
أمَّا الرجال فقد فطرهم الله عز وجل على القُوَّةِ والشِّدَّة، والقدرة على تحمل صعوبات الحياة، ومن ثَمَّ فالرجل يحكم بعقله على الأشياء، ونظرته غالبًا تكون عقلانية، وهذا من حكمة الخالق جل وعلا؛ حتى يصمد الرجل أمام الشدائد والمحن، ولا يغلبه الانفعال والعاطفة في حُكْمِهِ على الأمور.
ويضيف د جاد: إن بكاء الرجل من علامات إيمانه وقُرْبِه من ربه سبحانه وتعالى، فالرجل التَّقِي يَحْمِلُ بين طياته الخوف والرجاء، ويبكي كثيرا بين يدي مولاه، يتذكر ذنوبه وتقصيره. وبكاء العين دلالةٌ على رقة القلب، وهي عينٌ لا تمسها النار ( عينانِ لا تمسهما النار: عينٌ بكت من خشية الله، وعين باتتْ تَحْرُسُ في سبيل الله ).
وقد بكى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أمام أصحابه يومًا فتعجبوا من ذلك، فرد عليهم الرسول الكريم بأن هذه الدموع هي رحمة يجعلها الله في قلب من يشاء من عباده. وكان الصِّدِّيقُ أبو بكر رضي الله عنه كثيرَ البكاء، خاصةً في الصلاة، فلا يكاد يُسْمَعُ صوته من كثرة النحيب بين يدي مولاه.
أما سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد كان له خَطَّانِ أسودان في وجهه من شدة بكائه، وهو مَنْ هو قبل إسلامه شِدَّةً وغِلْظَةَ قلب!
فلا عجب إذن أن يبكي أقوى الرجال، طالما يحمل بين جوانبه قلبًا صافيًا عامرًا بالإيمان والخشية ومراقبة الله عز وجل في كل حركاته وسكناته، ولا عجب أيضًا أنْ يُخْفِيَ دموعه عن أقرب الناس إليه، ولا يبكي إلا في خَلْوَةٍ من البشر، فيكون بذلك من السبعة الذين يُظِلُّهُم الله في ظله، يومَ لا ظل إلا ظِلُّهُ: ( وَرَجُلًا ذَكَر اللَّهَ خالِيًا ففاضتْ عينَاهُ ) .