السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أقدم لكم أول قصة قصيرة كتبتها وكان ذلك صيف 2008 للمشاركة في مهرجان أدب الشباب .
أرجو نقدها وإعطاء رأيكم فيها
ملاحظة : جميع الحقوق محفوظة c .
جزائر المستقبل
خرجت في رحلة استثمارية ،على متن باخرتي التجارية ، إلى أحد بلدان آسيا الشرقية . وبينما أنا وسط ذلك البساط الأزرق الجميل ، إذ بريح صرصر عاتية تهجم على باخرتي الجديدة ، وتمزقها إربا إربا . أما أنا فكنت لعبة بين يدي الأمواج تفعل بي ما تشاء ، فأغمي علي ولحسن حظي أني أفقت فوجدت نفسي على شاطئ صخري ، وبجانبيي حقيبتي المملوءة مالا في مكان لم يسبق لي أن رأيته قط . فهممت بالسير علي أجد أحدا من البشر ، إلى أن وصلت إلى مدينة ليست ككل المدن . لقد بلغت أرقى درجات التطور والازدهار و النظافة ، وتمثل ذلك في بناياتها الضخمة وشوارعها النظيفة وأناسها اللطفاء وعلماءها العظماء فأسرعت بالسؤال : أين أنا ؟ فقيل إنك في بلد اسمه الجزائر . فقلت : هل كل مدنه هكذا فوجدت الجواب بالطبع هي كذلك .
فتجولت في أرجاءها وسحت في أركانها وصحبت أناسها وزرت معالمها فلفت انتباهي الكثير من الأمور : تدين شعبها وفصاحة لغتهم العربية ، انعدام البطالة وانتشار الأخوة و الصداقة واهتمامهم الكبير بالعلم والمعرفة . فعلمت أن هذا البلد سلاحه الدين واللغة والعلم .
ومن بين المعالم التي زرتها : أعظم مرفأ في العالم حيث أني وجدته تحفة معمارية عظيمة جمعت كل حضارات العالم . فاستغربت وهمست في نفسي قائلا : هل هذا عمل إنسان ؟ وبينما أنا أجول فيه إذ لفت انتباهي إمرأة جميلة قاربت الخمسين من العمر، منفردة ، سارحة بالفكر كأنها تفكر في ما وراء النجوم . لكن الدهر قد ترك أثره عليها كما يفعل النحات بالتمثال .
طال تأملي فيها وفي حالها المسكينة وبعد أخذ ورد قررت عرض المساعدة عليها ، وكنت أحسب أنها مسالة فقر وحاجة . فقلت : هل أستطيع أن أساعدك يا سيدتي ؟ فلم تهمس ببنت شفة فبعدما امتنعت عن الكلام ، عرفت أن بها كِلام ، فاقترب مني أحد الفضلاء ، وأخبرني أنها لا تتكلم مع الغرباء ، وأن مشكلتها ليست بيد إنسان ، وهي على هذه الحال منذ زمان ، تنتظر الفرج من الرحمان . فقلت : ما الذي قتل بريق جمالها ، و أطفا نور كلامها ، وجعلها وحيدة ، ومن الموت قريبة ؟ . قال محدثي : إنها قصة طويلة ، خالفت الدين ، يندى لها الجبين ، يحسبها السامع ضربا من ضروب الخيال أو أسطورة من أساطير اليونان . فزاد تحمسي لسماعها ، وأوقد فضولي لتتبع مراحلها . فقلت هلم بسردها . فقال : في العشرين من العمر تزوجت هذه المرأة برجل ذو علم ونسب ونفوذ ، فزادها ذلك جمالا لجمالها ، فكانت قوية بشخصيتها ، شريفة بنسبها ، كانت ببساطة حلم كل فتاة وحديث كل مجلس . عاشت سعيدة مع ذلك الزوج الشريف يتقاسمان أسهم الدهر فلا تؤثر على حياتهما ، فولدت من البنين أربعة ، لكن زوجها توفي بعد مولد الابن الرابع ، فحملت على كاهلها أعباء تربيتهم فنجحت في ذلك أيما نجاح ، إلا أنها دفعت ضريبة غالية نتيجة ذلك تمثلت في إصابتها بمرض خطير، عجز الأطباء عن معالجتها واستحال الناس شفاءها ، فألزمها الفراش سنوات عديدة إلا أن أبناءها الذين كان أكبرهم يقارب العشرين رفضوا الاستسلام وقاوموا المرض مع أمهم وجابوا بها أقطار الأرض بحثا عن العلاج وتضرعوا لله فكان الشفاء .
فعاشت بعد ذلك بضع سنين سعيدة ، مطمئنة مع أبنائها كيف لا ؟ وهي ترى لهم مستقبلا مشرقا فأكبرهم أميرال والثاني طبيب والثالث عالم دين والرابع عالم لغة فسعت إلى تزويجهم وكان ذلك. لكن حلم المرأة في بناء عائلة كبيرة قوية تحطم وتلك السعادة تمزقت فما إن تزوجوا حتى هجروها الواحد تلو الآخر ، واتبعوا زوجاتهم وهاجروا من هذه البلاد الجميلة لا لشئ إلا لعدم رؤيتها من جديد . فانقطعت عنها أخبارهم وتقطع مع ذلك قلبها ، فأصيبت بمرض آخر لا يقل خطورة عن الأول ، فصارعته عدة شهور إلى أن أنزل الله الشفاء ، ومن ذلك الوقت وهي آملة في عودتهم ، سامحة لهم ، وتأتي إلى هنا تنتظرهم ).
تأسفت لحال الوالدة المسكينة وقررت متابعة حياتها عن بعد ، فتقاسمت معها لحظات الأمل والوحدة ، لحظات القلق والحزن ، دموع فرح الأمس ، وندم اليوم . هل هذا هو الجزاء ؟ سنوات تعب الأم وشقائها تقابل بالهجرة . لكن شعلة الأمل في الأم ما زالت متوقدة ، فأحسستُ أنها تثق في تربيتها وأنها متيقنة أن ما فعلوه سوى وسواس الشياطين . مهما يفعل الأبناء فإن الآباء وخاصة الأم تبقى ذلك المنبع الذي لا ينتهي من الحنان ، ذلك المستودع الكبير من الدفء. في الحقيقة الأم هي أعز من الحياة و أغلى من الحب. مرت الأيام وكل يوم تزداد فيه شحوبا وضعفا ووهنا كانت تزداد قوة وإيمانا في رجوع أولادها .إلى أن جاءت اللحظة المنشودة ، لحظة لو تقاس بملك قارون لكانت أكثر ، هذه اللحظة التي يتوقف فيها الزمن ، وتخضع فيها قوى الشر لعاطفة الأم . آه! كم هي مؤثرة . وتلك الدمعة الساقطة من تلك العين التي لطالما سكبت الدموع لكنها هذه المرة دمعة فرح ، دمعة لقاء .....
لقد تهلل وجه الأم كأن الروح بثت فيها من جديد آه! كم أعجبت بتلك الصورة أم وسط أفلاذ أكبادها بعد طول فراق والكل سعيد .
عاد الأبناء بعدما أنبهم ضميرهم واكتملت الأسرة وعاشت في سعادة وقوة لا تضاهيها قوة واستعادت الأم بريق جمالها .
أفق يا بني ! أفق ! إنها السابعة عملك ينتظرك. ماذا؟! هل كنت أحلم يا أماه ؟؟
قالت : ربما هو كابوس آخر . لا يا أماه! لا! بل هو حقيقة! نعم حقيقة .
ذهبت إلى المستشفى الذي أعمل فيه ولم أقتنع بتاتا بأن ذلك مجرد حلم، وحزنت لأنني لم أعرف تاريخ ذلك البلد الجزائر. فسألت هل يوجد بلد بذلك الاسم ، فقيل نعم لكن ليس بالصورة التي وصفته بها .
فطالعت تاريخه وتمعنت حاضره ، فوجدت خيطا ، لا بل سلسلة عريضة تربط بين ماضي تلك المرأة وماضي وحاضر الجزائر. حيث وجدت أن المكانة المرموقة التي تبوأتها المرأة بعد الزواج هي نفسها التي تبوأتها الجزائر إبان الحكم العثماني . وذلك المرض الخطير الذي أصيبت به بعد وفاة زوجها هو الاستعمار الفرنسي الذي كان من المستحيل في نظر الكثيرين خروجه من الجزائر لكن الثوار غيروا ذلك الإيحاء بل حطموه ، نعم تماما كما فعل أبناء المرأة ، لكن سعادتها لم تدم طويلا بسبب مرض آخر ، نفس الشئ حدث بالنسبة للجزائر فبعد رؤيتها النور وبدأ استرجاعها مكانتها عاشت عشرية سوداء حرمتها السعادة وهاجر أدمغتها و أيديها العاملة .
لكني ما زلت لا أعلم ماذا حدث للجزائر من يومي هذا إلى اليوم الذي رأيتها في الحلم . الاختلاف كبير جدا . وبعد طول تفكير وجدت أن أبناء الجزائر سيرجعون إليها ويعملون من أجلها ولا تلهيهم الدنيا كما ألهت النساء الأبناء ، ستكتمل كل خصائص القوة لدى الدولة الجزائرية كما اكتملت في عائلة المرأة ، فالأميرال يمثل القوة العسكرية والطبيب يمثل العلم والمعرفة وعالم الدين يمثل التمسك بالدين الإسلامي وحسن فهمه وانتشار المثل العليا والأخلاق والسلام وعالم اللغة يمثل تمسك الأمة بلغتها والذود عنها وحمايتها من العولمة والانفتاح الثقافي .
على هذه الأعمدة ستقوم الدولة الجزائرية الحديثة الحرة المستقلة سياسيا واقتصاديا ، سعيدة ، آمنة وترجع لها مكانتها الكبيرة التي تبوأتها لقرون خلت .