كيف يتولّد الحسد؟
* أسرة البلاغ
لكلًّ منّا محاسنه ومساوئه.
لكنّنا- أحياناً وكجزء من خلق المتاعب لأنفسنا- لا نفكّر إلا بمساوئنا ومحاسن غيرنا.
هنا، ننسى أمرين:
أنّ غيرنا له مساوئه أيضاً، وأنه ربّما يتمنّى أن تكون له بعضُ محاسننا.
وقد ننسى أيضاً- ونحن نتطلع الى ما في أيدي الآخرين- أنّ المحاسن مكتسبة أي مثلها مثل أي شيء آخر يمكن تحصيله بالتمرين والتدريب والجدّ والاجتهاد.
فكما كان لغيرك أن يسعى ويكلّل مساعيه بالنجاح، لكَ أنت أيضاً أن تفعل الشيء نفسه، إذا سلكت الطريق نفسه، وحملتَ الهمّة نفسها، وآمنت بتوفيق الله مثله.
وتسأل: ولِمَ هذا التفاوت بين الناس؟
هذا التفاوت له أسباب كثيرة، منها:
- التفاوت في الإرادات والعزائم والهمم.
- التفاوت في كم وحجم العقبات والصعوبات التي تواجه كلاً منّا.
- التفاوت في درجة العلم والثقافة والمهارات.
- التفاوت في تقدير قيمة الأشياء.
- التفاوت في تحديد الآليات والوسائل الموصلة إلى الهدف.
- التفاوت في تحديد الأهداف.
- التفاوت في القرب أو البعد من الله سبحانه وتعالى.
ولهذا التفاوت جانبان (ربّاني) و(ميداني).
فلقد أراد الله سبحانه وتعالى بحكمته أن يختلف الخلقُ والبشر في أشياء كثيرة حتى يتحقّق للبشرية الإثراء في هذا التنوّع والتعدّد والاختلاف. فلقد جعلنا شعوباً وقبائل، وجعل الاختلاف في ألواننا وأجناسنا وألسنتنا، مثلما جعل الاختلاف في طبيعة الأرض التي نعيش عليها، والمياه التي نشربها، والهواء الذي نتنفّسه. وقد يبدو في الظاهر أنّ هذا الاختلاف هو اختلاف تفاضل، ولكنّه في واقع الأمر اختلاف رحمة وتعدّد من أجل خير عميم، وقد ثبت علمياً وفكرياً واجتماعياً واقتصادياً أنّ التعدّد والتنوّع ثراء.
هل يحاسبنا الله على ما لم يعطنا؟
هذا خلافُ العدالة تماماً، ولذا فإنّه لا يحاسبنا- مثلاً- على أشكالنا وألواننا واختلاف ألسنتنا، وإنّما يحاسبنا على ما انطوت عليه قلوبنا وعقولنا.
هل التغيير ممكن؟
نعم، ممكن. فليست الولادة في أرض قاحلة قدراً لا يمكن للإنسان أن يتخلّص منه، وليس الجهل صفة ملازمة لا يمكن الفكاك منها، وليس الفقر حالة مادية مكتوبة لا يقدر الإنسان أن يحسّنها أو يتجاوزها.
تقول أنّ العملية ليست ممكنة دائماً، نقول نعم، لأنّه ليست الهمم واحدة فـ (على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ) كما يقول الشاعر. وقد تكون هناك عوامل وظروف قاهرة لكن تفاوت الإرادات هو العامل الأكبر في تمييز إنسان عن إنسان آخر، أو شعب عن شعب آخر، وهذا هو الجانب (الميداني) للتفاوت، وقد أشرنا إلى بعض أسبابه العملية في المقدّمة.
لكنّنا- في ظلّ التفاوت الأوّل والثاني- نرى أناساً لا يفهمون حقيقة التفاوت، ويرجعون أسبابه إلى تصورات ذهنية خاطئة، كأن يظنّوا- مثلاً- أنّ الله يحبّ صاحب النعمة ولا يحبّهم، وأنّ نعمهُ سبحانه وتعالى لا تعرف الطريق إليهم، وقد يقولون بوحي من هذه التصورات أنّ الله يمنح أو يرزق الأدرد- الذي بلا أسنان- جوزاً، وما إلى ذلك ولذا تراهم لا يطيقون رؤية صاحب النعمة، وينقمون عليه، ويتمنون أن يتجرّد من نعمته ويبقى أعزلَ منها.
هؤلاء هم الذين نسمّيهم (الحسّاد).
فيومَ تقبّل الله قربان (هابيل) ولم يتقبّل قربان (قابيل) داخلَ الثاني شعورٌ طاغٍ بالغيرة القاتلة والحسد المشتعل المتصاعد كنارٍ أكول، فلم يتحمل رؤية أخيه أفضل منه، أو أنّه أقرب إلى الله تعالى منه، فقرّر وبدافع من نيران الحسد في داخله أن ينتقم منه، لأنّ رؤيته ماثلاً أمامه تذكّره بأنّه أفضل منه، فلم يهنأ له بال حتى أراده قتيلاً.
وحين رأى إخوة يوسف (ع) أنّ أباهم يتودّد لـ (يوسف) أكثر منهم لمزايا كثيرة كان يوسف يتمتع بها، منها أنّه رأى مناماً صادقاً فهم أبوه يعقوب من تأويله أنّه سيكونُ ذا شأن عظيم. ورغم أنّ الأب طلب من الابن عدم التصريح بما رأى لإخوته، لكنّهم قرأوا امتياز يوسف في وجه أبيهم، فتحرّكوا، أو قلْ حرّكهم الحسد العاصف إلى التخلص من يوسف ليخلو لهم وجهُ أبيهم، فلم يجدوا، أو لم يفتح لهم الحسد من طريقٍ سوى أن ينتقموا من يوسف البريء بإلقائه في البئر والادّعاء بأنّ الذئب قد أكله.
هل (قابيل) و(إخوة يوسف) الحسّاد الوحيدون؟
طبعاً لا، فما أكثر الحسد وما أكثر الحاسدين.
www.balagh.com