إن عدم التوافق بين المؤسسة الإجتماعية الرسمية والمحيط، قد أدى إلى خلق مجموعة من المؤشرات لها انعكاسها على أنماط السلوك، ومنها:
- تجريد حياة الشباب من عنصر الإستمرار وإقحامها في عنصر الإغتراب، حيث جعل من الشباب جيلا تختلف مواقفه وأنماط حياته عن الأجيال السابقة، انطلاقا من مقوله إن الشباب ليس حالة طبيعية بل مخلوق ثقافي، أي إنه نتاج أوضاع، تتجاذبه حياة الأسرة التي ينتمي إليها بقيم اجتماعية معينة، وواقع اجتماعي يتميز بقيم تختلف عن الأولى، تقوم على احتقار العمل اليدوي، وتشجيع الثروة، وتحث على امتلاكها، وهذا الوضع يختلف اختلافا كليا عما تنقله وسائل الإتصال.
- أصبح دور وسائل الإتصال في دول العالم الثالث بحسب ما تؤكده الملاحظات، يتمثل في تدمير الفرد وبخاصة "فئة الشباب المقبلة على الحياة وتحطيم تماسك المجتمع من خلال الأفلام والبرامج الأجنبية عن قيم المجتمع".
- انحراف دول وسائل الإتصال عن محاولة إذابة الفوارق بين الطبقات وتقريب الهوة بين القرية والمدينة، وتحقيق الشق الثقافي من التنمية الشاملة، وما يتضمنه هذا من بعث للقيم الأصلية (الإخلاص في العمل، والمصلحة العامة، التعاون، المحبة، الإنتماء.. الخ)، والإسهام في التنشئة الثقافية الواعية والعلمية.
وأسهم انحراف وسائل الإتصال إلى تدعيم نسق القيم الجديدة الذي يشجع على التطلع الطبقي والإستهلاك والمظهرية.
مما سبق يتضح أن بيئات دول العالم الثالث بما فيها الوطن العربي، تفتقر إلى ثقافة مميزة عن الشباب، بل يرجح أن أغلبها لا تبحث نشوء وتأسيس ثقافة خاصة به، لأن الشباب شديد الإهتمام بالحياة ونوعية المجتمع وانشغاله بالمشكلات الأساسية، والتبرم من الأوضاع المختلفة.
ويؤدي هذا إلى القول إنه إذا كانت نظرة الأسرة والمجتمع ومكانتهم، حاضرا ومستقبلا، وتأخذ بالإعتبار المكونات الأساسية، البيولوجية منها والنفسية والإجتماعية، بحيث تعمل على التواصل والنقل أو التمهيد إلى الإستقلالية، وبناء الشعور بالمسؤولية، لتتوافق مع محيط المجتمع بشكل سوي، فإنه يقضي على شعورهم بالإهمال، ويقطع الطريق أمام الإتجاهات التي تدعو إلى التحدي والسلوك الإجرامي.
أما إذا كانت تلك النظرة قائمة على الفصل والعزل بين الكبير والصغير، وبين الفكر والواقع، وبين طموحات الشباب ووسائل تحقيقها، فإن احتمال تزعزع أنساق تلك القيم يصبح أمرا واقعا، وكل ذلك يؤدي إلى الكثير من الإختلالات، يتولى عنها الكثير من المشاكل الإجتماعية، يصعب على البناء الإجتماعي استيعابها.
رابعا: اختلال التوازن في البناء الإجتماعي ومشكلة الإستيعاب في دول العالم الثالث
لقد أدت التغيرات الحاصلة في حركية مجتمعات دول العالم الثالث إلى افتقاد القدرة على التغيير، وتفاقم الوضع الإجتماعي. وإن أكثر الفئات العمرية تأثرا بهذه الأوضاع هم الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 عاما وحتى الثلاثين.
في ضوء ذلك، واستنتاجا من الإحصاءات المتوافرة، يتبين أن الفجوة بين الريف والمدينة تتعمق يوما بعد يوم، وهي ظاهرة مرضية، تترتب عليها ظواهر أخرى لها فعلها الخطير في عدم تناسق الأنساق.
أفرزت الظروف السابقة، ظواهر أخرى تمثلت في:
- ظاهرة الأحياء القصديرية المتخلفة (Bidonvilles) التي لا تعبر عن الفقر في العالم الثالث بقدر ما تعبر عن توزيعه، وعن حرمان جزء كبير من المجتمع، من عائدات بلاده، موزعة توزيعا غير عادل.
- ونتيجة لما تتسم به هذه البيئات من صعوبات اقتصادية واجتماعية، ولا شك أن أكثر المتأثرين بها هم الأطفال والشباب الذين لا تعليم ولا عمل لهم، إنهم يعيشون ظروفا مضطربة.
- ومنه إذا لم تتغير الآليات التي أدت إلى ظهور هذه المحيطات، وإدراجها ضمن منظور شامل للقضايا الإجتماعية والإقتصادية، فمن المحتمل أن تتحول إلى موقف مضاد يهدد البناء الإجتماعي (من خلال عمليات عنف الشباب وتطرفه).
- إن الأماني التي تحققـت، والفرص المتاحة عن طريق التكوين الإجتماعي يخلقان التوتر لدى المجموعات بحسب السن والأجيال.
ومن ذلك الرأي الذي يقول، إن النشء ملحق بالجيل الأقدم، مقصور دوره على الدراسة والمرح التافه، قد تم تطويره واتخذ أساسا للقيمة المعاصرة على المجتمع ضمن المنهج الثقافي العام.
من ذلك يمكن التساؤل عن:
* ما هي الأدوار الجديدة المتاحة للشباب في مثل هذه المجتمعات؟
* ما مدى سهولة حركتهم بين الهياكل المختلفة؟
* ما مدى حجم اندماج الشباب في مجتمعات العالم الثالث؟
إن الإجابة عن الأسئلة السابقة، تفتح المجال للقول إن شباب دول العالم الثالث، يعيش أزمة ناجمة عن ذلك التناقض في البناء الإجتماعي وتناقض في البناء المعرفي، ومن ذلك يمكن استخلاص مجموعة من المقولات النظرية التي يمكن من خلالها معالجة قضايا الشباب، وبخاصة مشكلة الجريمة في العالم الثالث، والعالم العربي جزء منه.
إن المدقق في مسار النسق العالم لدول العالم الثالث يستجلي مجموعة من المتغيرات تساهم في فرز مكونات لها الفاعلية في توجيه الشباب منها:
* إن تراجع عمليات التنمية في دول العالم الثالث، نتيجة الأزمة الإقتصادية التي تتعرض لها مع سوء تنظيم الموارد المحلية، أدى إلى انخفاض مستوى معيشة الأغلبية من سكان العالم الثالث بما في ذلك الشباب، ما أحدث له نوعا من الإحباط (Frustration) وهو شعور الشباب بالخيبة عندما لا يستطيع إشباع حاجاته، بسبب عوائق مادية واجتماعية.
* السلوك الإجرامي في دول العالم الثالث لم ينجح عن لامعمارية دوركهايم، لأن أزمة هذه المجتمعات لم تكن حال ظرفية مفاجئة، بل عملية تاريخية بنائية تعرضت لأساليب عمدية غريبة عنها.
* السلوك الإجرامي لدى شباب دول العالم الثالث، لم ينجم عن الثقافة الفرعية التي ركز عليها (سذرلند)، ففي الدول التي خبرت النظام الإجتماعي القائم على التصور الوقائي لكل ثغراته كالدول الإشتراكية، يخفف أو يقضي على المشكلات الإجتماعية في مهدها.
يستنتج من القضايا الأساسية أنه:
* بسبب ضعف فرص تعليم الأفراد، وضعف مستوى التكوين مع قلة الإمكانات لتحسينه، إذ إنها عوامل تشجع على التسرب المدرسي ليزداد توسعا، ما يدفع ويعزز إمكانيات السلوك الإجرامي.
* وبسبب عدم تأمين فرص العمل، وعدم حصول الشباب على مستوى تعليمي يخوله الدخول على مراكز التكوين والتوظيف، يحدث الإقصاء ثم التهميش والإغتراب، الأرضية الخصبة لنمو السلوك الإجرامي مرة ثانية.
* وبسبب الظروف (الإيكولوجية للسكن) في محيط يتميز يعدم التناسق والإحتقان وعدم استقرار القيم، يحدث للفرد عموما وللشباب خصوصا تأرجح بين السكون، والإندفاع، وبين السلوك الإجرامي الذي ينجذب نحوه.
علما بأن السلوك الإجرامي لدى شباب العالم الثالث، يتجاوب سلبا وإيجابا مع الإختلافات الإقتصادية والسياسية داخل المجتمع، هذه الإختلافات تحسب بحسب مميزات التنمية، والإنفاق الإجتماعي المنتج، وهذا يسمح لنا بالإستنتاج التالي:
لو كان الحي متخلفا، والبيت ضيقا فعلا، ولكن هناك نظام قائم على أساس واضح ونظرة أيديولوجية شمولية للواقع، مدرسة وعمل متوفران، ونشاط هادف قائم على التعرف، واكتشاف اتجاهات الشباب، النفسية، الإقتصادية- الإجتماعية، طبقا لمقتضيات استثمار طاقاتهم للنهوض بمستوى البناء الإقتصادي للمجتمع، لحلت المشكلة سلبا وإيجابا.
إن دول العالم الثالث لا تعيش مشاكل الشباب، بل إن شبابها يعيش في مشكلات، انعكاسا للأنماط التنموية التي طرحت كنماذج للتقدم، والقضاء على التخلف، إضافة إلى أن شبابها يعيش أزمة تولدت عن واقع أصبح عاجزا عن استيعاب مجموعة من التناقضات العيانية: التقدم/ اللاتقدم، التغير/ اللاتغير، عدالة/ لاعدالة من دول الدخول في مثاب الثنائية.
المصدر: كتاب الشباب والمشكلات الإجتماعية في المدن الحضرية
www.balagh.com