يعرف عن الشاعر زهير بن أبي سلمى ، أنه توفي قبل الهجرة بثلاثة عشر عاماً، وهو يوافق عام 609م.
و زهير بن أبي سلمى هو حكيم الشعراء في الجاهلية وفي أئمة الأدب من يفضله على شعراء العرب كافة.
وقال ابن الإعرابي:
كان لزهير من الشعر مالم يكن لغيره ، كان أبوه شاعرا وخاله شاعرا وأخته سلمى شاعرة وابناه كعب وبجير شاعرين.
ولد في بلاد مزينة بنواحي المدينة ، وكان يقيم في الحاجر من ديار نجد واستمر بنوه فيه بعد الإسلام.
قيل كان ينظم القصيدة في شهر ويهذبها في سنة وكانت قصائده تسمى الحوليات وأشهر شعره معلقته:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم *** بحومانة الدراج فالمتثلم
> هذا التعريف مبتسر جدا ، يقول بإيجاز قاصر حياة شاعر طويل الباع ، هو شاعر حكيم ، أو هو شاعر الشعراء كما يقول عمر بن الخطاب ولكنه فوق هذا وذاك هو شاعر الحرب والسلام وهو شاعر الحنفاء ، وهو الذي يقطر الحكمة شهدا.
والتعريف يهمل ليس فقط بيئة الشاعر وعصره ، بل ويهمل الكثير من أقوال علماء الأدب والبلاغة وأئمة النقد الأدبي قديمه وحديثه.
الحرب والسلام
> وأول نقطة يجب التوقف عندها ، هي عصر الشاعر زهير فقد كان يعيش في أواخر العصر الجاهلي ، المبشر بالبعثة المحمدية ، وهذا العصر كان عصرا معتركا بالحروب ، وحروب منها ما هي كونية يديرها ملوك كسرى والقياصرة ويتمترسون بملوك الحيرة والشام، وكان ملوك الحيرة والشام من بعد الأكاسرة والقياصرة، يحركون هذه الحرب متمترسين بالقبائل العربية ومشائخها من مرتزقة الحروب والمتاجرين بدماء أبناء القبائل العربية وشعوبها.
وكانت هناك حروب أخرى وأهم هذه الحروب هي حرب (داحس والغبراء) التي تدور المعلقة حولها ابتدأ من المطلع الطللي مرورا بالظعن ومديح السيدين هرم والحارث ثم إدانة الشاعر للحرب وتصويرها بأسلوب ينفر الناس منها، كما أنه يدين في المعلقة مثيري الحرب ومرتزقتها مثل (حصين بن ضمضم) وحتى الحكمة في نهاية المعلقة والمستنبطة من تجربته الحياتية وثقافته الشعرية والدينية وأهم قسم في المعلقة إدانته الحرب:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم *** وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها، تبعثوها ذميمة *** وتضر إذا أضر يتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها *** وتلقح كشافا ثم تنتج فتئتم
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم *** كاحمر عاد ثم ترضع فتفطم
فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها *** قرى بالعراق من قفير ودرهم
هذه الحرب كانت تدور رحاها في أحياء الجزيرة العربية إكراما للأكاسرة والقياصرة ولكنها لا تطحن غير أبناء القبائل العربية وشعوبها وهي حرب ذميمة ، لا يمتدحها إلا تجار الحروب من كل شاكلة وجنس والأبيات أعلاه تصور بشاعة الحرب وأثرها لا على النفوس البشرية وحسب بل وعلى المراعي، أي على البيئة، وبعد هذه الأبيات يتجه الشاعر إلى تصوير أحد مثيري هذه الحرب والممتنع عن الصلح واسمه (حصين بن ضمضم) قال زهير يدين أعداء السلام ممثلين بحصين بن ضمضم:
لعمري لنعمم الحي جر عليهم *** بما لا يؤاتيهم (حصين ابن ضمضم)
وكان طوى كشحا على مستكنة *** فلا هو أبداها ولم يتحمحم
هذا الصورة نجدها في معلقته وكانت أثناء عملية السلام التي قام بها السيدان هرم بن سنان والحارث بن عوف.
لكن موقف الشاعر من الحروب لم تقتصر على هذه الظاهرة بل كان الشعر بيده سلاحا يقاوم به كل حرب كان يثيرها تجار الحروب وكان بقدر ما يواجههم بالمقاومة العسكرية كان يواجههم بشعره مثال ذلك قوله يهجوا رجلا من فزارة ، واسمه عبيد بن أزنم:
فلا تحسبني يا بن أزنم شحمة *** تعجلها طاه بشيء ملهوج
لذي الفضل من ذبيان عندي مودة *** وحفظ ومن يلحم إلى الشر أنسج
وما الفضل إلا لامرئ ذي حفيظة *** متى تعف عن ذنب امرئ السوء يلجج
وأني لطلاب الرجال مطلب *** ولست بمثلوج ولا بمعلهج
القصيدة هنا لا تصور بشاعة الحرب كما في المعلقة ولا تصور فقط مرتزقة الحروب وتجارها، بل هي أيضا ترسم صورة لرجل تمادى على الشاعر وحاول تهديده ، فراح الشاعر يواجه المتمادين بشعره الذي ينطوي لا على التهديد والوعيد وحسب، بل وينطوي على الفخر كما في الأبيات الأخيرة من المقطع أعلاه.
فالشعر مع الشاعر ليس مجرد كلام أجوف ولا صادر عن متبجح وإنما هو قوة مادية يواجه به مرتزقة الحرب الداخليين، فبقدر ما كان الشعر هنا أداة هجاء وسخرية كان في نفس الوقت أداة تردع كل من يحاول إثارة الحرب كما في قوله يخاطب بني تميم وقد قرروا غزو غطفان قال الشاعر:
ألا أبلغ لديك بني تميم *** وقد يأتيك بالخبر الظنون
القصيدة كلها زجر لبني تميم وإنذار لهم إذا ما تمادوا في الغزو ، وكذلك نجد قوة الشعر عنده في مخطابته بني سبيع الذين اعتدوا على صرمة من إبل غطفان قبيلة الشاعر:
ألا أبلغ لديك بني سبيع *** وأيام النوائب قد تدور
فإن تك صرمة أخذت جهارا *** كغرس النخل أرزه الشكير
فإن لكم مآقط غاشيات *** كيوم أضر بالرؤساء إير
فقلنا يا آل أشجع لن تفوتوا *** بنهبكم ومرجلنا يفور
وكذلك قوله يخاطب بني الصيدا الذين تمادوا على مرعى الشاعر وغلامه:
فأبلغ إن عرضت لهم رسولا *** بني الصيداء إن نفع الحوار
بأن الشعر ليس له مرد *** إذا ورد المياه به التجار
فالشعر هنا أداة أو سلاح فعال يواجهه به المعتدون على حقه، فالشعر يمتاز بقوة توازي قوة السلاح متى ما حدا به الحداة، فالتجار كناية عن الحداة الذين يحدون بشعره الشرود.
ولشعر زهير أثر فعال بين قبائل العرب وأحياها كما يخاطب بني نوفل في قوله:
أبلغ بني نوفل عني فقد بلغوا *** مني الحفيظة لما جاءني الخبر
أولى لهم ثم أولى أن تصيبهم *** مني بواقر لا تبقي ولا تذر
وأن يعلل ركبان ألمطي بهم *** بكل قافية شنعاء تشتهر
فالشعر هنا أداة تشهير وتوبيخ بكل من يتعرض للشاعر أو لقومه، والقافية الشنعاء إشارة إلى ذلك أما التعليل فكناية عن ترديد الحداة لشعره.
فالهجاء في شعر زهير هو كلام يواجه به الشخصيات الهزلية والمنحطة فيسخر منها سخرية تجعلهم يتجنبون العدوان لا على الشاعر وحسب بل وعلى غيره كما في قصيدته الهمزية التي يهجو بها بني عليم ويدافع عن أعراف الجوار:
وما أدري ، وسوف أخال أدري *** أقوم آل حصن أم نساء ..؟
فإن تكن النساء مخبآت *** فحق لكل محصنة هداء
فإن الحق مقطعه ثلاث *** يمين أو نفار أو جلاء
وفي هذا الهجاء يبدو الشاعر وكأنه القاضي الذي يحكم بين المتخاصمين في حق الجوار.
وكما كان الهجاء سلاحاً في مواجهة المتحاربين ومرتزقة الحروب كذلك كان مديح الشاعر لممدوحيه كان حثا على السلام وإصلاح ذات البين كما في لاميته التي يمدح بها سنان ابن حارثة:
إذا القحت حرب عوان مضرة *** ضروس تهر الناس أنيابها عصل
قضاعية أواختها مضرية *** يحرق في حافاتها الحطب الجزل
تجدهم ، على ما خيلت ، هم إزاءها *** وإن أفسد المال الجماعات والأزل
يحشونها بالمشرفية والقنا *** وفتيان صدق لا ضعاف ولا نكل
هم جددوا أحكام كل مضلة *** من العقم لا يلفى لأمثالها فصل
بعزمة مأمور مطيع وآمر *** مطاع ، فلا يلفى لحزمهم مثل
هذا المديح يوجهه الشاعر لسنان ابن أبي حارثة المري ، فهنا الممدوح يمتاز بالكمال وبالقدرة فهو رجل مروءة لا رجل حرب . لكنه إذا ما قامت الحرب لا يتوانى عنها، فهو أول المحاربين دفاعا عن السلام وهو القدير على دحض الحرب وإقامة السلام بما يمتاز من عزم وحزم كما تقول البيت الأخير والعزم والحزم صفتان في البطولي كما نجدهما عند عنترة بن شداد.
هنا المديح لا يقوم على رغبة بالمال بل على رغبة في مدح أولي العزم والحزم أو أبطال السلام كما يصفهم في المعلقة:
يمينا لنعم السيدان وجدتما *** على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبسا وذبيان بعدما *** تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم