الفتاة التي قصت شعرها.. حُبًّا في الهندسة
وقفت الصغيرة (صوفي) أمام أبيها, وقالت في خجل:
- أبي.. هل لي أن أطرح سؤالا يؤرقني..?
وساعدتها نظرات أبيها أن تسأل عما يؤرقها..
- هل يستوعب عقل البنات ما في العلوم من نظريات?
ولم يندهش الأب من هذا السؤال المفاجئ, فهو يعرف أن ابنته الصغيرة, تعشق التأمل, وتجيد أعمالا كثيرة تتفوق من خلالها في حل العديد من المسائل التي تحتاج إلى ذكاء شديد.
وجاء دور الأب بمبادرة غريبة..
ففي اليوم التالي, فوجئت الصغيرة (صوفي) بلفافة مملوءة بالكتب الرياضية, والأب يقول:
- أعرف أن عقلك يمكنه أن يستوعب هذه الكتب الصعبة.
وكانت هدية جميلة بالفعل, استغرقت من (صوفي) أسابيع قليلة لقراءتها, بدت لها الكتب الصعبة بالغة السهولة, وكأنها تقرأ صفحات قصة مشوقة للغاية.
كانت (صوفي) في هذه الأيام من عام 1789, قد بلغت الثالثة عشرة, واستطاعت أن تقرأ الكثير من كتب العلوم الرياضية المتطورة, ورغم ذلك, فقد كانت شديدة الحزن فلا توجد أي مدرسة توافق على استقبال البنات لدراسة العلوم.
ومرت الأيام ثقيلة...
فالصغيرة (صوفي) تكبر, وتبلغ سن الأنوثة, وها هي قد صارت فتاة جميلة, في الثامنة عشرة من العمر حين سمعت أنه تم افتتاح أول مدرسة للهندسة العليا بمدينة باريس التي ولدت بها.
وقررت أن تلتحق بهذه المدرسة, مهما كان الثمن...
ولم يكن الثمن, سوى أن ترتدي ملابس الفتيان, وأن تقص شعرها لتكون أشبه بالأولاد, وانتحلت اسما (مذكرا) والتحقت بالمدرسة.
وسرعان ما ذاع صيت هذا الشاب في المدرسة... بل إنه وقف ذات يوم يحل مسألة لم يتمكن أستاذ (الرياضة البحتة) من حلها.
وبعد المحاضرة, طلب المدرس أن يلتقي بهذا الطالب النابغة. وجاءت (صوفي) وامتثلت أمام أستاذها, الذي سألها:
- حدثني أيها الشاب... كيف استوعبت كل هذه الحلول البديلة لمثل تلك المسألة الصعبة?
وضحكت (صوفي), وقالت:
- سيدي الأستاذ.. أولا.. لست شابا.. اسمي (صوفي).. أنا فتاة..
وزادت دهشة أستاذ الرياضة البحتة, وهو يردد:
- يا إلهي.. هذا الرأس الصغير.. هل يستطيع أن يفكر مثل الرجال?
وأثبتت التلميذة (صوفي جيرمان) التي اتخذت لنفسها اسما مذكرًا, أن الله قد رزقها بعقل بالغ الذكاء, دليل الإعجاز, وقامت بحل بعض المسائل الرياضية الصعبة التي حاول أن يختبرها بها.
وفي السنة الأولى من الدراسة, ذاع صيت الشاب النابغة (لوبلان) الذي لم يكن سوى الفتاة صوفي, التي أثبتت أن الفتاة لها عقل يستوعب العلوم الصعبة, خاصة الرياضيات البحتة.
وذات يوم دعا الأستاذ تلاميذه, وقال لهم:
- اليوم.. سوف أعلن عليكم نتيجة العام.. وأخبركم أن الأولى على الدفعة هي الطالبة النابغة (صوفي جيرمان).
واندهش الطلاب, وتصوروا أن الأستاذ يلقي دعابة, رغم جديته الشديدة, هنا فردت (صوفي) شعرها, وكشفت عن هويتها, ولم تتكلم..
وسرعان ما انتشرت الحكاية, وذاع صيت الطالبة النابغة (صوفي), التي بدأت تكرس حياتها للتعمق أكثر في المسائل العلمية المعقدة..
لا.. لم تكن معقدة, بل هي بالغة السهولة بالنسبة للفتاة, التي كرست سنوات شبابها في الاستفادة مما منحها الله من موهبة.
واكتشفت أنه لا يوجد شيء ثابت في الحياة.. عن طريق نظرية أسمتها (البديل المرن) التي تتركز حول العلاقة بين الأبعاد المختلفة للأشياء.
فالمربع.. قد لا يكون مربعا بالكامل.
والمثلث.. من أدراك أنه مثلث..?
والمستطيل.. هل هو بالفعل مستطيل ثابت الأبعاد?
وانتشرت النظرية الرياضية وسط المحافل العلمية, خاصة علماء الرياضة المهتمين بالهندسة المعمارية.
ووصلت إليها رسائل عديدة من العلماء يطلبون تفسيرات لهذه النظرية التي لم يستوعبها الكثيرون بسهولة.
ورغم ذلك, كم عانت (صوفي) من أنها فتاة, وكم نظر إليها الآخرون في دهشة وهم يتساءلون: حقا.. هل نحن أمام فتاة استوعبت كل هذا العلم?
وكم اندهش أحد العلماء عندما عرف الحقيقة, لكن سرعان ما اكتشفوا أن العقل البشري لدى المرأة والرجل لا يختلف كثيرا, والدليل أن (صوفي) حصلت على أكثر من رسالة علمية فخرية.
وفتحت (صوفي) الباب كي تدخل نساء كثيرات إلى المعامل, ومنهن (ماري كوري) والعالمة المصرية (سميرة موسى).
وعندما قرر المهندس الشهير (ايفل) أن يصمم الكباري (الجسور), والأبراج الشهيرة, مثل (برج ايفل) في باريس و(كوبري أبو العلا) في القاهرة استخدم نظرية (البديل المرن) فجاءت تصميماته فريدة, ليس لها مثيل.
وحدث ذلك بعد رحيل (صوفي) بأعوام طويلة.
فقد انتقلت إلى العالم الآخر عام 1831, بعد أن فتحت للعلم آفاقا جديدة, لم يسبقها إليها أحد.
من مجلة العربي الصغير