لما دخل الحجاج بن يوسف الثقفي البصرة قال: من سيد البصرة؟ فقيل له: الحسن البصري، قال: كيف وهو من الموالي؟ فقيل له: لأن الناس احتاجوا إلى علمه، وزهد هو عما في أيدي الناس.
نعم، إنه العلم الذي يرفع الله به صاحبه مهما كان شكله أو لونه أو صنعته أو حالته. إنه سيّد التأثير. تأثير موصول بالسماء. تأثير عابر للقارات، بل وعابر للقرون والأحقاب، إذ لا زال الناس يتأثرون بأقوال العلماء الأفذاذ الذين بليت أجسادهم منذ أمد بعيد وما بليت أعمالهم ولا تبدد تأثيرهم.
عزيزي القارئ: في الجزء السابق من هذه المقالة سار بنا الدكتور علي الحمادي في قيمة وأهمّية العلم للأفراد والأمم في الدنيا وفي الآخرة، ورأينا أمثلةً حيةً على أن العلم تشريف عظيم لمن يحملونه بقدر ما هو تكليف جسيم.
إنّما يعظم بالعلم من يعظّمونه وإنّما يشرف بالعلم من يعملون به:
جلس التابعي الجليل مكحول عالم أهل الشام في مجلسه يلقي درسه كعادته وحوله طلاب العلم يأخذون عنه إذ أقبل الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك في زينته وتبختره، وجاء إلى حلقة مكحول، فأراد الطلاب أن يوسعوا له، فقال مكحول: دعوه يتعلم التواضع.
وقال الفضيل بن الربيع: كنت بمنزلي ذات يوم وقد خلعت ثيابي وتهيأت للنوم، فإذا بقرع شديد على بابي، فقلت (في قلق): من هذا؟
قال الطارق: أجب أمير المؤمنين، فخرجت مسرعاً أتعثر في خطوي، فإذا بالرشيد قائماً على بابي وفي وجهه تجهم حزين، فقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إليّ أتيتك.
فقال: ويحك قد حاك في نفسي شيء أطار النوم من أجفاني، وأزعج وجداني، شيء لا يذهب به إلا عالم تقي من زهادك، فانظر لي رجلاً أسأله.
ثم يقول ابن الربيع: حتى جئت به إلى الفضيل بن عياض، فقال الرشيد: امض بنا إليه، فأتيناه، وإذا هو قائم يصلي في غرفته وهو يقرأ قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ} فقال الرشيد: إن انتفعنا بشيء فبهذا.
فقرعت الباب، فقال الفضيل: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فقال: ما لي ولأمير المؤمنين؟ فقلت: سبحان الله، أما عليك طاعته.
فنزل، ففتح الباب، ثم ارتقى الغرفة، فأطفأ السراج، ثم التجأ إلى زاوية من زوايا الغرفة، فجعلنا نجول عليه بأيدينا، فسبقت كف الرشيد كفي إليه.
فقال: يا لها من كف ما ألينها إن نجت من عذاب الله تعالى غداً، قال ابن الربيع: فقلت في نفسي ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب نقي، فقال الرشيد: خذ فيما جئناك له يرحمك الله.
فقال الفضيل بن عياض: وفيمَ جئت وقد حمّلت نفسك ذنوب الرعية التي سمتها هواناً. وجميع من معك من بطانتك وولاتك تضاف ذنوبهم إليك يوم الحساب، فبك بغوا، وبك جاروا، وهم مع هذا أبغض الناس لك وأسرعهم فراراً منك يوم الحساب، حتى لو سألتهم عند انكشاف الغطاء عنك وعنهم أن يحملوا عنك سقطاً من ذنب ما فعلوه، ولكان أشدّهم حبّاً لك أشدّهم هرباً منك.
ثم قال: إنّ عمر بن عبد العزيز لمّا ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب ورجاء بن حيوة وهم ثلاثة من العلماء الصالحين فقال لهم: إنّي قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا عليّ، فعدّ الخلافة بلاء وعددتها أنت نعمة.
فقال سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أباً، وأوسطهم عندك أخاً، وأصغرهم عندك ابناً، فوقر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك.
وقال رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، وأكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إن شئت.
وإني أقول لك: يا هارون، إني أخاف عليك أشد الخوف يوماً تزلّ فيه الأقدام، فبكى هارون.
قال ابن الربيع: فقلت: ارفق يا أمير المؤمنين، فقال: تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا.
ثم قال: يا حسن الوجه، أنت الذي يسأل الله عزَّ وجلَّ عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه فافعل، وإياك أن تصبح أو تمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أصبح لهم غاشَّاً لم يرح رائحة الجنة).
فبكى الرشيد، ثم قال: هل عليك دين؟ فقال: نعم دين لربي لم يحاسبني عليه، فالويل لي إن سألني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم ألهُمُ حُجتي.
قال الرشيد: إنما أعني دين العباد، فقال: إن ربي لم يأمرني بهذا وقد قال عزَّ وجلَّ: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (*) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (*) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينِ}.
فقال الرشيد: هذه ألف دينار خذها وأنفقها على عيالك وتقو بها على عبادك، قال: سبحان الله!! أنا أدلك على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا؟
قال ابن الربيع: فخرجنا من عنده، فقال هارون الرشيد: إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين اليوم.
يقول القاضي الجرجاني رحمه الله:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان ودنسوا محيَّاه بالأطماع حتى تجهما
لا يعطيك العلم بعضه حتّى تعطّيه كلّك
لقد اعتنى صناع التأثير بالعلم أيّما اعتناء، وجاهدوا في سبيله أيّما جهاد، وأخلصوا لله تعالى في طلبه، فبلغوا به المنزلة الرفيعة والدرجة السامية، فرحمة ربي عليهم ما طلع الليل والنهار.
يقول القاسم: أفضى بمالك (بن أنس) طلب العلم إلى أن نقض سقف بيته فباع خشبه .
وحكى الحافظ بن عبد البر: أن مسروقاً رحل في حرف، وأن أبا سعيد (الحسن البصري) رحل في حرف أيضاً .
ويقول الحافظ ابن كثير: وقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه فيوقد السراج ويكتب الفائدة تمر بخاطره، ثم يطفئ سراجه، ثم يقوم مرة أخرى حتى يتعدد منه ذلك قريباً من عشرين مرة.
وصدق من قال:
لمحبرة تجالسني نهاري أحب إليّ من أنس الصديق
ورزمة كاغد في البيت عندي أعز إليّ من عدل الرقيق
ولطمة عالم في الخدِّ مني ألذ عليّ من شرب الرحيق
ولقد تألمت كثيراً من واقع كثير ممن يعدون أنفسهم من صناع التأثير، تجد أحدهم قد أنهى دراسته الجامعية وربما الماجستير وأحياناً الدكتوراه ولا يفهم في تخصصه إلا الشيء اليسير، ولا تلمس له تمكناً أو عمقاً في المجال الذي درسه طوال سنوات عديدة من حياته، وإذا تكلم في تخصصه تعثر وتلعثم وكأنه ما درس شيئاً، وإذا أراد أن يأتي بفكرة في مجاله الذي يفترض أن يبدع فيه إذْ بفكرته هذه كأنها فكرة طفل صغير لم يفقه من الحياة شيئاً، ترى كيف يكون أمثال هؤلاء من صناع التأثير ومهندسي الحياة؟!
إنني هنا أهتف في آذان صناع التأثير النافع وفي عقولهم وقلوبهم أن يعيدوا النظر في مدى اعتنائهم بالعلم والعلماء، ومدى اقترابهم من هذا المؤثر الفذ، بل والذي نفسي بيده إنه سيد المؤثرين وأستاذهم وتاجهم، إنه العلم الذي طالما قدم المتأخرين، وأعز الأذلة والصاغرين، وسوّد العبيد والموالي، ورفع أتباعه إلى قمم شاهقة وآفاق بعيدة.
يقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكميل بن زياد: العلم خير لك من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العالم يزكو على الإنفاق والمال تنقصه النفقة، العلم حاكم والمال محكوم عليه.
ويقول علي بن أبي طالب كذلك:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش به حيّاً أبداً الناس موتى وأهل العلم أحياء