الأدب بين الإلزام والالتزام
* إعداد: مبارك عبد الله
كثر الكلام في التزام الأدب وإلزاميته، وطال عليه الزمن، وانقسم الدارسون لهذه القضية إلى فريقين: فريق يدعو إلى الالتزام، ويرى الحفاظ عليه، باعتباره يمثل تعبيراً عن إحساس الفنان بمسؤوليته تجاه إبداعه من جهة، وتجاه المتلقي (القراء) من جهة أخرى، وفريق ينكره ويرى التحلل منه، على أساس أن الالتزام حَجْر وتقييد لحرية المبدع وخنق لإبداعه.
والحقيقة أن الإلزام وليد الالتزام، فالالتزام يفرض عليك أن تحدد موقفك تجاه الآخرين، وذلك بتحمل المسؤولية التي ألقيت على عاتقك؛ لأنك تتحدث بلسانهم وتترجم همومهم، وتساعد على تغيير واقعهم المرير وصنعه، وهنا تتجلى فاعلية الأديب والمفكر على سواء؛ ولأنك تحملت المسؤولية فأنت ملزم بالحضور الدائم الواعي، المدرك لحقيقة وجوده، العارف بأهمية الرسالة التي يحملها الذي هو مطالب بتبليغها، وفق هامش من الحرية تحددها الكلمة الهادفة والصادقة، فأدبك وسيلة من وسائل التربية، يقول توفيق الحكيم: "الالتزامُ المُثمِر للفنَّان- في رأيي- هو الالتزام الذي ينبع من طبيعته، وهنا لا يتعارض الالتزام مع الحرية؛ بل هنا ينبع الالتزام نفسه من الحرية. لذلك لم أقُل لأديبٍ أو فنَّنانٍ: الْتَزِمْ؛ بل قُلتُ وأقولُ: كُنْ حُرّاً..".
عمل خاوٍ
أما أن تكون سطحياً، غير مبال برسالتك في هذه الحياة.. مغيباً لوقع الحياة على وجدانك، فهذه هي السلبية بذاتها؛ لأنك ألزمت جهدك الضائع لعمل خاو، مفرغ لا يحترم قواعد الأدب والأخلاق.
طبعاً نحن لا نؤمن بنمطية للالتزام، قد تتحول ذات يوم إلى قضية أدبية، يثار حولها على غرار القضايا الأدبية الكلاسيكية، لكن همنا الوحيد هو أن يعرف الجميع ان الالتزام ليس حكراً على الأدباء دون غيرهم، بل هو ضرورة لكل ذي عقل سليم؛ لأن به تحدد الأهداف وتصل الرسائل التربوية.
إذن فالالتزام والإلزام متلازمان تلازماً كبيراً، فالأديب حين يلتزم بقضية ما هو بالضرورة ملزم بالدفاع عنها وتحديد موقفه اتجاهها بجلاء ووضوح، أي يكون طرفاً فيها أو جزءاً منها، وهنا تظهر حقيقة الالتزام التي هي التزام بسنّة الكون وحرية الإنسان.
تجاوز السقطات
ونحن حين نقر بهذا التلازم، لا يعني أننا نقحم الأديب في صراع فكري مع القضايا الإنسانية على اختلاف طبائعها، بل نريد أن يكون الأديب متحركاً متغيراً متجاوزاً للمعطيات التي يفرضها ويحددها المناخ الثقافي والاجتماعي المعاش، حتى يتسنى له أن يتجاوز سقطات الابتذال والعبثية في الأدب، أي على الأديب أن ينأى بإنتاجه عن كل مساومة، هروباً من تخلف يطال الحياة على جميع الأصعدة؛ لأن ذلك من شأنه أن يدفع الأديب كي يرضى بأدب متخلف، على نحو: تجاهلت لما رأيت الجهل فاشياً.
الأدب يتميز بحركية دائمة، وحرية يكتسبها من خلال الالتزام بالقضايا المصيرية، التزاماً تقويمياً تغييرياً، بعيداً عن كل تسليم بما هو كائن، وهذا ليس دخيلاً عن الأدب، بل هو هم الأدب المحض، وبذلك يمكن القول إن الصلة أصبحت وثيقة بين أديب المجتمع والأديب الفرد- إذا صح التعبير- وهذه الظاهرة ليست بالجديدة، فقد كان الشاعر في مرحلة معينة صوت القبيلة والذائذ عن حياضها، كما كانت الفردية تدفعه من حين لآخر إلى التصدي إلى كبريات القضايا الحياتية التي تحدد مصيره، على غرار الشعراء الصعاليك.
إذن لابد أن نؤكد أن مسألة الالتزام والإلزام في حياة الأديب أصبحت ضرورة اليوم أكثر من الأمس لا يمكن تجاوزها، رغم ما يقال هنا وهناك من أنها أصبحت مفهوماً مستهلكاً أو رأياً عابراً، لكن الحقيقة أن القضية إن طرحت بشكلها الصحيح البعيد عن كل إملاء سياسي أو أيديولوجي، سنحت للكثير من الأدباء أن يلطفوا المناخ الثقافي المغترب في كثير من الأقطار العربية ويعيدوه إلى مساره الصحيح وأصوله العريقة، وقلّصوا الفجوة بين الأديب والأدب من جهة، وبين الأديب والمجتمع من جهة أخرى، فيثبت نفسه ويقدم حلولاً جديدة للواقع يستجيب الواقع لها.
www.balagh.com