بقلم/د. هشام النجار
الصرخة التي انطلقت من حنجرتي الواهنة ليس لها قيمة الآن.. فلن يهتز لها فرع شجرة.. ولن يتجاوب معها طائر.. ولن ينبح لها كلب.. ولن يفزع لها إنسان.
أذكر صرختي المجروحة وأنا طفل صغير.. صرخة طفولية بريئة أنقذتني من بين أنياب الذئب الذي استولى على جسدي.. وانفرد به بعيداً.. وهم أن يعبث به.
صرخت وجذبت نفسي بأقصى ما أملك من قوة.. ووجدتني في حضن امرأة من نساء القرية.
لا أدرى من أين أتت؟.. ومن أرسلها؟.
ولا أنسى نظرة عينيها لذلك الحيوان.. بدون أن تلفظ كلمة واحدة أو تخطو خطوة واحدة.
عرته وبصقت عليه..
ودارت عورتي ورمتني في حضن أمي..
وأين حضن أمي؟
وأين حضن تلك المرأة؟
وأين نظرة عينيها الآن؟
أين الناس؟
أين امرأة ريفية بعينين تقدحان بالشرر؟
أين كلاب القرية وصغارها المصابون بالوهن؟
أين العصافير تشد من أزري وتؤنسني؟
وأين الشجر؟
وأين قوتي وعافيتي وأنا طفل صغير؟
أين من ينقذني اليوم؟
وأنا وحدي.. وجدران الزنزانة.. والذئب البغيض.
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه!
اسأليني.. عن جرحى.. ومتى أجبت أحد ؟
اسأليني.. عن سرى ولا تنتظري مني الجواب.
اسأليني.. واجلسي لترتشفي دموعي وتغوصي في غموضي وتسكنك لوعتي.
اسأليني.. لم أعد أحتمل.
صرختي المدوية.. وأنا رجل يافع.. ضحك لها الذئب وسخر مني.
صرخة.. رجل كامل الفحولة في لحظة موحشة مجهولة في مكان كئيب أمام حيوان شرس أدافع فيها عن عرضي.
صرخة.. شيخ كان يوما ً يدعو الناس لطريق الله.
وهل أقدر بعد الآن على شيء ؟
هل أقدر على المواجهة؟
هل أستطيع بعد ذلك رفع رأسي والسير بين الكائنات والبشر.. وممارسة وجودي والإحساس بكياني.. والدعوة إلى فكرتي؟
هل أقدر على رفع قدمي والصعود إلى المنبر؟
وهل سأقدر على النزول من بيتي لصلاة الجماعة ؟
سألته والجدران تردد:
ماذا تريد ؟
ماذا ستفعل ؟
اخترقتني ضحكته الملوثة ممزوجة بآهات أخوات البوسنة وسراييفو وفلسطين والعراق.
ووجدتني كامرأة لا قوة ولا حول.. يعريها سفاحها ويفضح ضعفها ويغتال شرفها ويسب ويلعن.
من تناديه لينقذها وهى تحته تلعن نفسها وعجزها وتودع كبرياءها المسحوق؟!!.
اسأليني عن سرى
اسأليني يا حبيبتي.. عن جرحى الغائر.
اسأليني.. عن سر فزعي بالليل.. وانكساري بالنهار.
اسأليني.. لم ضاع إحساسي وانهارت أحلامي وفقدت شهيتي للحياة؟!!.
اسأليني يا حبيبتي.. أحتاج للبوح.. لم أعد أحتمل.
تسألينني: ماذا بك يا حبيب عمري؟ ما الذي غيرك؟ ماذا أصابك؟
أفيق من كابوسي.. وأقول لك:
لا شيء يا حبيبتي.
لا شيء.
الكابوس المعتاد.
فقد تذكرت ذلك الرجل الضخم الذي أغلق على الزنزانة وضربني على قفاي ثلاثمائة قلم متواصل.
تقولين: وهل هذا كل شيء؟
أبتسم في مرارة وأضمك بيدين مرتعشتين وأبتلع وجعي وأقول:
نعم.. هذا هو كل ما حدث
لم يحدث شيء آخر
لم يحدث شيء