فنجان شاي مع المنفلوطي
لـ حنين عمر
زاوية فنجان شاي- الفجر : 17-5-2009
مازلت أذكر جيدا تلك الغصة التي أصابتني لأسبوع كامل، وحالة الاكتئاب التي سببها لي الأديب المصري المعروف مصطفى لطفي المنفلوطي وأنا بعد لم اكمل 12 عاما من عمري، بعدما قرأت ترجمته لرواية " الفضيلة"- أو بول وفرجيني للفرنسي بيرنار دي سان بيار- والتي كانت تتنافى تماما مع ما في رأسي الصغير من افكار يوتوبية آنذاك، و تناقض نظريتي الطفولية " الطيبون ينتصرون دائما في النهاية " . ولم أستطع التخلص من ذلك الاكتئاب إلا بمواربته بطريقة مضحكة، فقد قررت أن أعيد كتابة الرواية من جديد وأن أغير نهايتها إلى نهاية سعيدة معتقدة انني بذلك ساغير مصير ابطال الرواية و ساتخلص من شعوري بالحزن. ولعلي مازلت أحتفظ في مكان ما من أوراقي بروايتي ذات النهاية السعيدة مكتوبة بخط رديء بعض الشيء ومزينة برسومات لـ بول وفرجيني بطلي القصة، كما مازلت أحتفظ أيضا بأول ورقة نقدية كتبتها في حياتي وعمري 14 عاما،والتي جاء في مطلعها :" لم أتمن في حياتي أن التقي بأديب كما تمنيت أن التقي بالمنفلوطي لعلي أنجح في تغيير نظرته المتشائمة للحياة".
لقد استطاع مصطفى لطفي المنفلوطي - رغم نظرته السوداوية للحياة – ان يصنع لنفسه عالما خاصا في تاريخ الأدب المصري والعربي، رغم أنه لم يكن روائيا بالمفهوم العام بقدر ما كان مترجما قادرا على اقتناص محتوى المفردة الأجنبية وصبها في قالب اللغة العربية تماما كما يجب، و لعله في احيان كثيرة جعل النص المترجم أكثر جمالا من النص الأصلي، كما يظهر ذلك مثلا في النص الأصلي لرواية "ماجدولين" أو : " تحت ظلال الزيزفون" للمؤلف الفرنسي ألفونس كار. كما يظهر تمكن المنفلوطي من اضفاء لمسته الخاصة على ما يترجمه من الأدب الفرنسي جليا في ترجمته لنص " في سبيل التاج" الذي هو بالأساس مأساة شعرية للكاتب فرانسوا كوبيه.
و بعيدا عن مجال الترجمة الذي برع فيه المنفلوطي، فإن أسلوب كتاباته الخاص الجاف نسبيا و الموغل في السوداوية، ظلّ متأثرا بذلك المجال، و كأنما كتاباته الخاصة ترجمة لتفكيره بلغة أخرى، اذ انني – حسب رأيي المتواضع- أرجح أن المنفلوطي كان يفكر باللغة الفرنسية وهو يكتب بالعربية، ولهذا اكتست كتاباته تلك المسحة الشبيهة بمسحة النص المترجم، بل وحتى من ناحية البناء اللغوي والتأثيث الجمالي ضلّ هناك رابط خفي ما يجمع طرفي المعادلة.
أما عن المحتوى العام للنصوص، فأعتقد أن هناك تساؤلا كبيرا جدا يجب أن يطرح بخصوص النظرة التشائمية القاتمة والقانتة التي عاش المنفلوطي سجينا فكريا لها في كتاباته الخاصة، فبرغم كونه كان أزهريا و تلقى تعليما دينيا إلا ننا نجد أن هذا التعليم الديني لم يكن له ذا فائدة كبيرة، فالفكر الديني غالبا ما يكون مبشرا - وبشر المؤمنين - و يدعو الى التفاؤل ويلقي رداء الطمأنينة على النفس، وهذا ما لا نجده عند المنفلوطي ، اذ تتفق معظم الآراء النقدية على كونه كان غارقا في نظرته المكتئبة للعالم، ولا يرى شيئا جميلا فيه و لا يؤمن إلا بالحزن كعامل أدبي مؤثر حتى في اختياره لنصوص يشتغل على ترجمتها.
لقد ظل اذن هذا الأديب يسكن بيت الأسلوب الواقعي الحيادي في نصوصه وترجماته، و يعيش في عتمة اللا أمل طوال حياته دون أن يستطيع فانوس ايمانه أن يضيء له طريق الفرح، ولعل هذا ما جعله يغادر مبكرا في الاربعين من عمره ليخسر الأدب العربي أحد اهم المترجمين في تاريخه ، و لأخسر أنا رهان تغيير نظرته للعالم !
مع ذلك لن أيأس و سأحاول أن أشرب فنجان شاي معه تحت ظلال الزيزفون لأقنعه ليس فقط بأن يحب زملائي الأطباء قليلا – فقد كان يكره الاطباء – إنما أيضا لأقنعه أنه رغم كل القبح في هذا العالم تبقى هناك مساحة للجمال في داخلنا، وأن الله أكرم مما يمكن له أن يتصوره، وبأن منتهى القوة أن تبتسم وفي عينيك ألف دمعة.
حنين