* أ. الشيخ محمد علي التسخيري
إنّ أُمّتنا ما فتئت تواجه التحديات الكثيرة التي تستهدف كل مقوماتها التي تتميّز بها شخصيتها.
ومن هذه المقومات حالاتها التعليمية والإعلامية والثقافية؛ ذلك ان تعليمنا
وتربيتنا فرض عليهما الإبتعاد عن الأسس التعليمية الإسلامية، التي تحاول أن
تفجر الطاقات الفطرية في النفس الإنسانية، وتسير به نحو كماله المنشود،
عبر النظر بمنظار القرآن والسنة والتأدب بآدابهما، والتشبع بمفاهيم التصور
الإسلامي.
أمّا الإعلام فهو بدوره ابتلي بآفات الإعلام المادي الغربي الذي تسوده
عناصر الأثارة والمبالغة، والإستغلال، واللا خلقية، والتهمة وستر الواقع.
وكلها تبتعد عن الصفات القرآنية للإعلام الحق.
وقل ما تشاء عن العملية الثقافية التي كانت تقرأ الحياة دائماً باسم الله، وتمتلك مرجعيتها الأصلية الضابطة لكل المقولات الثقافية.
ومن هنا ونحن نعيش عصر انبعاث الصحوة الإسلامية على المسؤولين في كل هذه
المجالات أن يخططوا للعودة للماضي عودة غير تراجعية وإنّما هي كمثل العودة
إلى القواعد الحصينة ثمّ الإنطلاق الى المستقبل برؤية أوضح، وهمة أكبر،
ومعاصرة متوازنة.
وإذ نركز على العملية التربوية للجيل الشاب يجب علينا أن نعيد له أسس
شخصيته كما أرادها الإسلام وحددها الرسول الأكرم (ص) وقد اهتم (ص) بهذا
الأمر غاية الإهتمام، وسلك لتحقيقه مختلف السبل.
ولقد ركّز الإسلام على عناصر الشخصية الإنسانية، وأراد له أن يكون متوازناً
متعادلاً في نظرته عن الواقع وموقفه منه، منسجماً في شخصيته، تتطابق
عقيدته وعواطفه وسلوكه، مستفيداً من كل فرصة تتاح له خير الإستفادة. فإنّ
الفرص لا تتوفر دائماً لتغير الأحوال والحالات والإمكانات.
وقد روي عن علي (ع) قوله: "بادر شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك".
وكذلك قوله (ع): "ما اقرب الدنيا من الذهاب والشيب من الشباب".
ومن هذه الفرص مرحلة الشباب بما فيها من قوة وجمال وصفاء نفس وتفتح على
الحياة وكأنّها تماثل مرحلة الربيع في الطبيعة. انّها المرحلة تبنى فيه
الشخصية بكل جوانبها العقائدية والعاطفية والتربوية في إطار من التعقل
السليم، والتربية المتأصلة في النفس ولذلك يركز الإسلام عليها:
وقد روي عنه (ص):
"والتوبة حسنة لكنه في الشباب أحسن".
وقوله (ص): "إنّ الله يظل الشباب الناشئ في عبادة الله بظله".
وقوله (ص): "مَن تعلم القرآن في شبيبته اختلط بلحمه ودمه"
وقوله (ص): "إنّ الله يحب الشاب الذي يفني شبابه في طاعة الله"
نعم أراد الله أن يكون الشباب قوة وجمالاً في الباطن كما هو كذلك في الظاهر:
يقول الإمام العسكري (ع) وهو أحد أئمة أهل البيت (ع): "حسن الصورة جمال ظاهر، وحسن العقل جمال باطن".
ويصف الرسول الزهراء فاطمة فيقول: "إنّ إبنتي فاطمة ملأ الله قلبها وجوارحها إيماناً حتى مشاشها".
(والمشاش هي رؤوس العظام اللينة) ومثله (ملئ عمار إيماناً إلى مشاشه).
ونحن نجد في قصة النبي يوسف (ع) إنسجاماً رائعاً بين الجمال البدني (حاش
لله ما هذا بشراً انّ هذا الا ملك كريم). والجمال الخلقي. فهو العبد الشاب
الصالح في مواقفه المتنوعة الداعي إلى ربه حتى وهو في سجنه (يا صاحبي السجن
أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار). وهو الشاب الصابر والممتنع عن
المعصية مهما كان الإغراء: (.. وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ
لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا
يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف/ 23). وتبقى شخصيته ثابتة منسجمة حتى بعد أن
صار حاكماً قوياً ليقول: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ
وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ
وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي
مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (يوسف/ 101).
وقد استخدمت النصوص الإسلامية شتى الوسائل لتأكيد الحقيقة الآنفة ومنها ما يلي:
أوّلاً: التوجيه المباشر في النصوص حيث يتم حث الشباب على تأصيل العقيدة في
النفس، وربط العواطف بالعقيدة وبالتالي الإنطلاق في السلوك من هذين
المنبعين (العقيدة والعاطفة). وهذا ما نلاحظه في تعليمات لقمان لولده:
(وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ
بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ
بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي
عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ
جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا
تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ
مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ
مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي
الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ
أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ
وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ * وَلا
تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّ
اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ
وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)
(لقمان/ 13-19).
وفي وصية أمير المؤمنين لولده الحسن بن علي (ع)، وهي من أروع الوصايا: حيث
تعرض فيها الإمام من جملة ما تعرض إلى قضايا كثيرة وهذه مقاطع من الوصية:
(فإني أوصيك بتقوى الله – أي بني – ولزوم أمره، وعمارة قلبك بذكره،
والإعتصام بحبله، وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين الله أن أنت أخذت به).
(احي قلبك بالموعظة، وامته بالزهادة، وقوِّه باليقين، ونوره بالحكمة، وذلّله بذكر الموت، وقرره بالفناء، وبصره فجائع الدنيا).
(فاصلح مثواك ولا تبع آخرتك بدنياك).
(وأمر بالمعروف تكن من أهله وانكر المنكر بيدك ولسانك).
(واجمعت عليه من أدبك أن يكون ذلك وأنت مقبل العمر ومقتبل الدهر، ذونية سليمة، ونفس صافية).
(يا بني اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك).
(فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها).
(ولا تظلِم كما لا تحب أن تظلم).
ثانياً: التأكيد على قيمة التحلي بهذه الصفات فقد ذكرت النصوص نتائج رائعة لذلك:
ومنها قوله (ص): (إنّ الله يظل الشاب الناشئ في عبادة الله بظله).
وقوله (ص): (إنّ الله يحب الشاب الذي يفني شبابه في طاعة الله تعالى).
وقال الإمام الباقر (ع): "كان أبي زين العابدين (ع) إذا نظر إلى الشباب
الذين يطلبون العلم ادناهم إليه وقال: مرحباً بكم أنتم ودائع العلم ويوشك
إذ أنتم صغار قوم أن تكونوا كبار آخرين".
ثالثاً: تقديم النماذج السامية لذلك من خلال الأنبياء وقد أكّدت بعض النصوص
أنّ الأنبياء بعثوا في مرحلة الشباب من قبيل قوله تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا...) (يوسف/ 22).
(قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) (الأنبياء/ 60).
وعنه (ص): "ما بعث الله نبياً إلا شاباً".
وعنه (ص): "ما بعث الله نبياً إلا وهو شاب، ولا أوتي علم عالماً إلا وهو شاب".
وعنه (ص) يا بني عبدالمطلب: "اني والله ما اعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به أني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة".
وما أكثر السلوكات النموذجية للأنبياء (ع) فهذا الفتى إبراهيم (ع) يقول عنه
القرآن: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا
بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ
الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا
عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ) (الأنبياء/ 51-54).
وإبراهيم نموذج الموحد الواله الصابر الثابت على الإخلاص المضحي المتبرئ من
الشرك العائذ بالله الأواه الحليم المنيب. وهذا إسماعيل (ع) الشاب المؤمن
الذي يعلن انّه أن صبر على الفداء فذلك بأمر الله: (.. قَالَ يَا أَبَتِ
افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)
(الصافات/ 102).
وهذا يوسف (ع) يقول عنه تعالى: (.. كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ
وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف/ 24).
وهذا موسى (ع) لا تغره القوة بل يصنع الخير ويعلن لله فقره: (فَسَقَى
لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا
أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص/ 24).
وهؤلاء الفتية من أصحاب الكهف يرفضون مجتمعهم الكافر (نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ
وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) (الكهف/ 13).
وأروع أسوة سيدنا محمد (ص) النبي الأمين حيث يقول تعالى: (لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو
اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب/ 21).
وقد روي عنه قوله: "أنا الفتى، ابن الفتى، أخو الفتى".
وقد جمع (ص) كل الصفات الحميدة حتى قال فيه تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4).
رابعاً: ومن الأساليب التأكيد على مسؤولية الشاب الخاصة عن شبابه:
فقد روي عنه (ص) قوله:
"إنّ العبد لا تزول قدماه يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه"
وعن الإمام علي (ع) قوله: "من لم يجهد نفسه في صغره لم ينبُل في كبره".
خامساً: وقد قلد رسول الله (ص) بعض الشباب مناصب عليا تأكيداً على فضل أصحابها الشبان ومنهم:
1- مصعب بن عمير حيث بعثه – وكان فتىً حدثاً – ممثلاً عنه إلى المدينة قبل
الهجرة ليعلمهم القرآن. وهو أوّل مَن جمع الجمعة في المدينة.
2- عتاب بن اسيد ولاه مكة بعد الفتح في حنين وكان عمره 21 عاماً.
3- اسامة بن زيد ولاه قيادة جيش عظيم لحرب الروم وفيه المهاجرون والأنصار وكان عمره 18 عاماً.
4- علي بن أبي طالب (ع) وقد استخلفه على المدينة حين خرج في تبوك قائلاً له: الا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى".
5- معاذ بن جبل جعله (ص) في عام الفتح معلماً للفقه والسنن.
سادساً: نفرّت النصوص من الشاب المنحرف كما في قضية موسى والعبد الصالح الذي قضى على فتىً يضل أبويه الصالحين.
سابعاً: كما حث المجتمع والأبوين بشدة على إبتغاء الولد الصالح وتربيته ومساعدته على النشأة الصالحة، وعدم دفعه للعقوق.
فقد ورد عن رسول الله (ص) قوله: "لعن الله والدين حملا ولدهما على عقوقهما".
وعنه (ص): "أوصيكم بالشبان خيراً فإنّهم أرق أفئدة".
ثامناً: دعا الإسلام الشاب إلى إختيار الأصحاب المتخلقين بالخلق الحسن وإجتناب المنحرفين:
فهذا علي بن الحسين (ع) يقول لبعض بنيه: "إياك ومصاحبة الكذاب فإنّه بمنزلة
السراب يقرب لك البعيد ويبعد لك القريب، والفاسق فإنّه بايعك بأكلة أو أقل
من ذلك، والبخيل فإنّه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه، والأحمق فإنّه
يريد أن ينفعك فيضرك، والقاطع لرحمه فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله".
وهكذا يعمل الإسلام على صناعة جيل شاب صالح، يحمل الأمانة الإلهية إلى من بعده، ويحقق مقتضيات الخلافة بكل قوة وصلابة.
المصدر: كتاب رسالة التقريب (61)
www.balagh.com