وداعاً صديقي الوفي ! هكذا ودعني ثم رحل ! أمسكت بيده ، رجوته أن يمهلني دقائق لن تطول معه ، فلديَّ ما أقوله له ..
نزع يده من يدي ، وبحركة عفوية ـ كطبيعته ـ قبَّلني على رأسي ، وقال : أعرف ماذا تريد أن تقول ... إنها قائمة الممنوعات الطويلة .. نصائحك القديمة ... تحذيراتك البالية ..ما زلتَ تُعاملني كطفل صغير ، أينما توجهه لا يأت بخير !
غدا كالزئبق في يدي ، كلما أردت أن أُمسك به خانتني فروج الأصابع صحت فيه : أخاف عليك من نفسك وممن حولك
وقف كالرمح يخترق كبد السماء ، وقال : لكنه ـ يا صديقي ـ عمر واحد ، وأريد أن استمتع بشبابي كغيري .. أظنك تعرف ما معنى الشباب ! لا تقلق ، فسأسارع بالإياب ، فهذا سفري الأخير ، أليس لكلِّ أجل كتاب ؟! قلت : أجل .. أجل .. حتى يأت الأجل !
ورحل ! سرت في أطرافي رعشة كالعاصفة ، ونشبت في حلقي مرارة كالغصَّة ، وأردت أن أدمع ، فغالبت الوجع ، وتناسيت !
هاتفني ، وقال : سأعود بعد شهر ، وأتمنى أن تكون أول من أراه في المطار . انصرمت الأيام كطيف الأحلام ، أكل آخرها أوَّلها ، فوجدتني كلهفتي ، أرتحل بدني إلى المطار ، يسابقني شوقي ، وفرحي ، وخوفي !
وفي صالة المطار .. أحسست بشيء غريب ، فهؤلاء أقارب صديقي ينتظرون .. واجمون .. جامدون .. صامتون .. كأنما على رؤوسهم الطير !
وصلت الطائرة ، فقمنا مسرعين نحو بوابة الدخول .. هؤلاء أصدقاء صديقي .. يحملون فوق رؤوسهم تابوت الموتى ... ولكن ؛ أين صديقي ؟!
فهمت الحكاية ... لقد كانت النهاية والسفر الأخير ! أمسكت بأيديهم بعد أن أسلموا صديقي لأهله ، سألتهم : ماذا كان يصنع ؟! لم يجيبوا ... فعرفت الجواب !