من أحداث السيرة النبوية في شهر صفر، الذي تمر بنا أيامه، ما كان من قصة أولئك الصحابة العشرة الذين بعثهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع وفد عضل والقارة ليعلّموهم الدين ويقرؤوهم القرآن.
ولما كانوا في الطريق في مكان يقال له الرجيع غدروا وغروا بهم، فقتلوا عامتهم، وأسروا خبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة، وباعوهما إلى قريش، ليثأروا منهما لقتلاهم بغزوة بدر وأحد.
وفي هذه الحادثة من مواقف الثبات والتضحية والبطولة والعزة ما يزيد المسلم تمسكا بهذا الدين، الذي ربى مثل أولئك الرجال.
فالله عز وجل يحمي المؤمنين الصادقين، أحياء وأمواتا ''إن الله يدافع عن الذين آمنوا''.
يحفظ الله العبد المؤمن
فعاصم بن ثابت، رضي الله عنه، وكان من أولئك الذين غُدر بهم وهو أميرهم، عندما قتل أرادوا أخذ رأسه ليبيعوه لسلافة بنت سعد، التي نذرت حين قتل عاصم ابنيها في أحُد لئن قدرت على رأسه لتشرب فيه الخمر، وجعلت له مئة من الإبل، وعندما أرادوا أخذه، وجدوا أن الدبر (الزنانير) أحاطت به فقالوا اتركوه للماء حتى تذهب عنه فنأخذه، فبعث الله عز وجل الوادي فاحتمل عاصما فذهب به. وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول حين بلغه أن الدَّبْر منعته: يحفظ الله العبد المؤمن. كان عاصم قد نذر أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركا أبدا في حياته، فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه في حياته.
ترجمة محبة الرسول الكريم
وأما زيد بن الدثنة، عندما قدّم لقتله بمكة فقد ضرب أروع الأمثلة على الثبات والوفاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث اجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له قبيل أن يقتل: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي.
فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا، ثم قتل.
فهذه المحبة، هي التي صنعت تلك التضحية في سبيل الله، وذلك الإيمان الذي فقدناه اليوم فقدنا معه عزتنا وكلمتنا. وصدق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ''لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده ووالده والناس أجمعين''، ''قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله''.
وأما خبيب بن عدي فقد أجمعوا على صلبه، فقال لهم: إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين، فافعلوا، قالوا: دونك فاركع، فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، فيا له من صبر وثبات وارتباط بالله في أصعب اللحظات..
وكان خبيب بن عبدي أول من سن هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين. وقد قال لقاتليه في عزة وقوة وتحد ''أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة''.
وقال قصيدته المشهورة، هي اليوم لسان حال الشعب الفلسطيني وهو يجابه طغيان وبغي وجرائم اليهود، يشكو كربته وغربته لله عز وجل، وأبى أن يذل أو يهون، أو يبدي للعدو خوفا أو جزعا، آخذا الدرس من خبيب بن عدي الذي قال:
لقد أجمع الأحزاب حولي وألّبوا
قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وكلهم مبدي العداوة جاهد
عليّ لأني في وثاق بمَضيَع
إلى الله أشكو غُربتي بعد كربتي
وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
وكان من مواقف خبيب في الثبات والتمسك بالعقيدة والتوجه إلى الله عز وجل أنه عندما رفعوه على الخشبة وأوثقوه قال: اللهم إنا قد بلّغنا رسالة رسولك، فبلّغه الغداة ما يصنع بنا. ثم قال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا (متفرقين) ولا تغادر منهم أحدا.
خطورة دعوة المظلوم الصادق
وكان لهذا الموقف والدعاء في نفوس من حضر قتله، حتى إن أبا سفيان ألقى بنفسه وبابنه معاوية إلى الأرض خوفا منها، لأنهم كانوا يعتقدون أن الرجل إذا دعي عليه فاضطجع لجنبه زالت عنه.
وكان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ استعمل سعيد بن عامر بن حِذيم الجمحي على بعض الشام فكانت تصيبه غشية، وهو بين ظهري القوم، فذكر ذلك لعمر وقيل: إن الرجل مصاب، فسأله عمر قدمة قدِمها عليه، فقال: يا سعيد، ما هذا الذي يصيبك؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين ما بي من بأس، ولكني كنت فيمن حضر خبيب حين قتل وسمعت دعوته، فوالله ما خطرت على قلبي، وأنا في مجلس قط إلا غشي علي.
أين العالم من حق الطفل في فلسطين؟
وكان من قصة خبيب رضي الله عنه أنه حبس قبل قتله في بيت ماويّة مولاة حُجير بن أبي إهاب، وكانت قد أسلمت. تقول: قال لي حين حضره القتل: ابعثي إلي بحديدة أتطهّر بها للقتل، فأعطيت غلاما من الحي الموسى فقلت: ادخل بها على هذا الرجل البيت، قالت: فغفلت عن صبي لي، تدرّج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت منه فزعة عرف ذلك مني وفي يده الموسى فقال: أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله.
إنه الالتزام بالمنهج والاستقامة في حالتي الشدة والرخاء.
لو قتل خبيب ذلك الطفل، لكان لفعله ما يبرره عند كثير من الناس، ولكن ما ذنب الصبي حتى يؤخذ بذنب قومه الغادرين القاتلين الحاقدين.
درس سبق اتفاقية حقوق الطفل التي لم توقّع عليها أمريكا... لتمد العون المادي والمعنوي لإسرائيل، وهي تعبث بأطفال فلسطين، تقتلهم وتشرّدهم.. لا لذنب اقترفوه.. ولا لجرم اقترفه آباؤهم.. إلا لأنهم قالوا: ربنا اللّه، وفلسطين أرضنا، والمسجد الأقصى مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم...
أيها العرب بطن الأرض خير لكم!
واليهود ومن لفّ لفهم يُسمون دفاع الطفل عن نفسه وأرضه بالحجارة عنفا وإرهابا... بل يُقتل الدرّة وهو في حضن أبيه، وتقصف الرضيعة إيمان وهي في حضن أمها. وفي غزة اليوم تمزّق أجساد الأطفال.
فعن أي سلام يتحدثون..؟
وعن أي حقوق يتكلمون..؟
فيا أيها العرب بطن الأرض خير لكم من ظهرها (قد أسمعت لو ناديت حيا... ولكن لا حياة لمن تنادي)..
لقد فقدتم كل قيمه.
فلا رجولة ولا نخوة.
ولا قيمة ولا حُرمة.
إن قريشا في هذه القصة (الرجيع) لم تقتل زيدا وخبيبا في أرض الحرم، وخرجت بهما إلى التنعيم وانتظرت بهما حتى مضت الأشهر الحرم.
فالتزمت بعض القيم حتى وهي تقتل رجلين أعزلين.
وفي غزوة الخندق نزل عمر عن فرسه ليبارز عليا رضي الله عنه، ولم ير من الرجولة أن يقاتل على فرسه، بينما علي رضي الله عنه على قدميه...
فمتى يعود للمسلمين والعرب شيء من الرجولة...
ومتى تعود لأمم الغرب شيء من الإنساني