من هو الرجل الذي طلع في أقصى الأرض قادماً من الشرق ليؤسس دولة الأمراء، التي أعقبتها دولة الخلفاء، وأعادت للأمويين عامة وللمروانيين خاصة سالف مجدهم من بعد انطماس صفحة ناصعة من صفحات تاريخهم العتيد؟
من هو هذا الرجل الذي وحد الأندلس، وقمع الثورات، وقضى على الفتن وجاهد الفرنجة؟
قال عنه جده: إن هذا الفتى الصغير سوف يؤسس في غرب الأرض دولة تكون هي البديل عن دولة المروانيين التي كانت آخذه في التفكك والإندثار؟!
باختصار.. إن هذا الرجل الملقب بصاحب الأندلس، وصقر قريش ، وبالداخل ، هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان ، رجل اختلطت فيه الدماء المشرقية من جهة الأب، بالدماء المغربية الأمازيغية من جهة الأم.
القضاء على ملك الأمويين
عندما أقام العباسيون دولتهم على أنقاض الدولة الاموية، تعقبوا الأمويين للقضاء على أفراد البيت الأموي، فقتلوا الأمراء وأبناء الأمراء بل وأحفادهم، وكل من توقعوا أن يطالب بالإمارة خشية محاولة أحدهم استرداد مجدهم لاسيما في الشام، لهذا بذلوا الجهود المضنيه لتحقيق هذا الهدف.
الفرار
وصل عبد الرحمن بن معاوية إلى القيروان وعمره تسع عشرة سنة فقط، وهناك وجد ثورة كبيرة للخوارج في الشمال الأفريقي كلّه، كان على رأسها عبد الرحمن بن حبيب وكان قد استقلّ بالشمال الإفريقي عن الدولة العباسية، وبسبب النزاع الشديد بين الخوارج والأمويين فقد كان عبد الرحمن بن حبيب يسعى هو الآخر للقضاء على عبد الرحمن بن معاوية حين علم بأمره.
عندما قدم عبد الرحمن بن معاوية إلى القيروان اجتمع عليه الخوارج وكادوا أن يقتلوه، فهرب من جديد إلى برقه في ليبيا ، وظل مختبئاً فيها عند بعض أخواله هناك طيلة أربع سنوات كاملة، حتى سنة
(136 هـ= 754) وكان قد بلغ من العمر ثلاثة وعشرين سنة. دخوله الأندلس
بدأ عبد الرحمن بن معاوية يعدّ العدة لدخول الأندلس، فعمل على الآتي:
أولاً: أرسل مولاه بدر إلى الأندلس لدراسة الموقف، ومعرفة القوى المؤثرة في الحكم فيها.
ثانياً: راسل كل محبي الدولة الأموية في أرض الأندلس بعد أن علِمَهم من مولاه. ثالثاً: راسل عبد الرحمن بن معاوية البربر في الأندلس، وطلب معونتهم ومساعدتهم، وكانوا في ذلك الوقت على خلاف شديدٍِ جدًا مع يوسف بن عبد الرحمن الفهري، لأنه فرّق بينهم وبين العرب، فهم يريدون أن يتخلّصوا من حكم يوسف بن عبد الرحمن الفهري الذي عاملهم بهذه العنصرية.
رابعاً: راسل كل الأمويين في كل الأماكن التي هربوا إليها يعرض عليهم فكرته، وأنه يعزم على دخول الأندلس ويطلب معونتهم ومددهم.
وفي ربيع الثاني سنة 138هـ ، 755 عبر عبد الرحمن المضيق وانضم إلى انصاره وزحف إلى اشبيلية واستولى عليها وبايعه أهلها، ثم نجح في دخول قرطبة العاصمة، بعد أن هزم جيش يوسف بن عبد الرحمن الفهري في موقعة المسارة في العاشر من ذي الحجة سنة 138هـ.
توليه الحكم
بعد موقعة المسارة والسيطرة على منطقة قرطبة والجنوب الأندلسي لُقّب عبد الرحمن بن معاوية بعبد الرحمن الداخل، لأنه أول من دخل من بني أمية قرطبة حاكمًا.
ثم بويع عبد الرحمن بالإمارة في قرطبة، وأعلن نفسه أميراً على الأندلس فوق منبر مسجد قرطبة الجامع، ولم يكن عبد الرحمن قد تجاوز السادسة والعشرين من عمره.
صقر قريش
حاولت الخلافة العباسية أن تضم الأندلس إلى دولتها ولكن عبد الرحمن الداخل وقف لهم وحاربهم دون ذلك، حتى لقبه العباسيون أنفسهم بصقر قريش وهو اللقب الذي اشتهر به بعد ذلك، فقد كان أبو جعفر المنصور جالسًا مع أصحابه فسألهم: أتدرون من هو صقر قريش؟
فقالوا له: بالتأكيد هو أنت.
فقال لهم: لا.
فعدّدوا له أسماء أبطال وأمراء من قريش حتى ذكروا له معاوية وعبد الملك بن مروان من بني أمية.
فقال أيضاً: لا.
ثم أجابهم قائلا: بل هو عبد الرحمن بن معاوية.
عبد الرحن بن معاوية كما أخبر عنه أبو جعفر المنصور:
دخل الأندلس منفردًا بنفسه، مؤيّداً بصواب رأيه، مستصحبًا لعزمه، يعبر القفر، ويركب البحر حتى دخل بلداً أعجمياً فمصّر الأمصار وجنّد الأجناد، وأقام ملكًا بعد انقطاعه بحسن تدبيره وشدة عزمه..
هذا هو صقر قريش.