فنجان شاي مع نجيب محفوظ
لـ حنين عمر
عن زاوية فنجان شاي / صحيفة الفجر / 10-5-2009
حينما كانت طائرتي عام 2006 تنزل على أرض مصر، كانت روح نجيب محفوظ ترتفع إلى السماء،و كان عليا أن ارتدي فستانا أسود بسرعة، و أنتزع الوردة البيضاء التي في مشبك شعري، وألتحق بوفد مودعي الهرم الرابع، لأجد نفسي جالسة بين عشرات النساء ألأرستقراطيات المتشحات بالسواد وبين قارورات ماء بلاستيكية صغيرة مبعثرة هنا وهناك.
و بعيدا عن كون قدمي – كانت نحسا عليه- فإنني أعتبر نفسي محظوظة جدا لأنني كنت ضمن برتكول مراسيم جنازته،و تمكنت من سرقة كل ذلك الزخم الروحي والشعري من لحظة نادرة في تاريخ الأدب العربي.
لقد عاش نجيب محفوظا عمرا طويلا كمنتج أساسي للمادة الروائية المصرية، و أسس تجربة مهمة امتدت على مدى سنوات طويلة جدا، و لم تقتصر انعكاساتها على اثراء الأدب المصري فقط ، إنما امتدت إلى اثراء السينما المصرية، من خلال الكثير من الأفلام التي ما تزال قادرة على جعلنا نلقي بالريموت كنترول جانبا لنغوص في احداثها و نتماهى مع شخصياتها، ولابد ان من الاشارة هنا، إلى أن علاقة نجيب محفوظ بالسينما كانت علاقة تعايش وفية ضمنت لأعماله الرواج عند النخبة والجماهير على حد سواء، و منحته الضوء والشهرة والخلود.
ولا استغرب كثيرا حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، بل إنه من المنطقي جدا أن يأخذ كاتب عرف من أين تؤكل الكتف، و أجاد فن العزف على أوتار الواقعية، كل ذلك الإهتمام العالمي، إذ لا مناص من الاعتراف بذكاء نجيب محفوظ الذي استطاع ان يخرج ببيئته الاجتماعية المصرية – بتكيتها وبحاراتها و فتوّاتها و نسائها و رجالها- و بهموم أجيالها و بأنظمتها السياسية- إلى خارج حدودها، وهذا في حد ذاته يحسب له ولا يحسب عليه، لكن ما يحسب عليه هو أن اسلوبه – رغم تنوع المواضيع- بقي واحدا لا متأثرا بأي تغييرات زمنية، و لا متأزما مع الشخصيات ، و لا مسافرا في أبعاد اخرى من اللغة و المعنى اللغوي، فقد ظلّ يكتفي ربما بالسفر عميقا في بعد فلسفي و روحي و رمزي من ناحية المعنى التركيبي للرواية كما نجد في رواية " الشحاذ" مثلا،التي تطرح قضية البحث عن الحقيقة الدينية.
إن أسلوب نجيب محفوظ – برأيي المتواضع- رغم ثراءه المدهش من الناحية الفكرية و الفلسفية، بقي يحمل طوال الوقت نفس الروح الباردة التابعة للمدرسة الواقعية والمرسلة على لسان الراوي الخارجي بنفس الوتيرة المزاجية التي لا تواكب مشاعر القاريء ولا تبعث فيه الرغبة في البكاء، ولا غصة التوّحد مع أبطال الرواية،و لا تلامس العمق السايكولوجي ولا تثري القاموس اللغوي الجمالي، و لا تحلق به في آفاق ابعد من سرد شفوي تقريري لأحداث مرئية محددة بتفاصيل لا تغوص غالبا كثيرا في جمالية المشهد، ذلك المشهد المؤثث دائما حسب التقاليد المحفوظية الثابتة،و التي نجدها انعكاسا فطريا لبيئة الكاتب إذ حينما نراجع مجموعته ( حكايات حارتنا)، تبدو السيرة امتدادا لـ( قصر الشوق) و( بين القصرين) و ( زقاق المدق) وغيرها. كما نجد لدى نجيب محفوظ شخصيات مرسومة غالبا بدقة تبالغ في واقعيتها، و ترّوج لفكر معين هو انتهاج المحفوظية ذاتها : (قتل "سي السيد " اجتماعيا) حتى وإن كان "سي السيد" قد ظلّ يعيش بين خيوط نسيج ارتباط الكاتب بالبيئة الاجتماعية التي نشأ فيها، بطربوشه الأحمر وشواربه المفتولة، و نظرته المخيفة...
ولن اطمع طبعا في احتساء فنجان شاي مع "سي السيد" في مقهى الحارة، وأكتفي بفنجان شاي مع نجيب محفوظ في مقهى الفيشاوي بخان الخليلي، اشربه على عجل و أنا اخبره بصراحة أنني أفضل مشاهدة رواياته على قراءتها، لأنها فعلا روايات سينمائية تستحق أن نتخلى من أجلها عن حلقة من المسلسل التركي – الذي لا أحبه-.
حنين