اصبر تفز بصفاء الدّين والدُنيا
* د. سمير يونس
المؤمن الصابر إذا فقد صفاء دنياه لا يفقد صفاء دينه، ولا يضعف أمام نفسه لنكبة حلَّت به، أو لابتلاء أصابه.. ذلك شأن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين والدعاة والرجال العظماء، فقد أكدت سيَرُهم إن عِظم المنزلة والأجر مع ثقل الأحمال، وشدة البلاء، ومعاناة الصعاب، وقوة الصبر.
فالابتلاء سُنّة من سنن الله عزّوجلّ في عباده، وهي سنة لا محالة واقعة، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد/ 31)، وفي سورة الملك: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (ملك/ 2)، وفي سورة الكهف ذكر الابتلاء بالنعمة وزينة الأرض، قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الكهف/ 7).
- القرآن يشخص نفسية الإنسان:
الابتلاء بالخير واليسر أصعب من الابتلاء بالشر والضيق، وقد شخِّس القرآن الكريم نفسية الإنسان، فبيّن أن ابتلاء الإنسان بالضرِّ يقربه من ربه، قال تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ * أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) (الزمر/ 8-9).
- ضرورة التأهب والاستعداد:
حياة الناس – إذن – مليئة بالابتلاءات والأزمات، ومن هنا وجب على الإنسان أن يتأهّب ويستعدّ للنوازل المتوقعة، حتى لا تذهله المفاجآت، كما قال الشاعر:
عرفنا الليالي قبل ما نزلت بنا ***** فلما دَهَتْنا لم تَزِدْنا بها علما
فلا شك ان تَلَقِّي الشدائد والابتلاءات ببصيرة مستنيرة واستعداد كافٍ من شأنه أن يحصِّن الإنسان، وأن يحفظ عليه دينه، فإذا ما استحكمت الأزمات، وتعقّدت حبالها، وتتابعت الضوائق وطال ظلامها، فالصبر وحده هو الذي يشع للمسلم النور العاصم من التخبط، والهداية الحافظة من الضلال، والأمل الواقي من اليأس والقنوط، وهذا معنى قول رسولنا الكريم(ص): "والصبر ضياء".
- كيف يكون الصبر ضياء؟
إذا وطّنَ المؤمنُ نفسه على احتمال المكاره دون ضَجَر، وواجه الشدائد برضا وثبات، فإن ذلك يحفظ عليه عقله، فلا تطيش به كُربةٌ، ولا تفتنه محنةٌ، بل يشيء الصبرُ له الطريق، ويوقن بأن ذلك من علامات الدّرب، ويبقى موقناً بأن بوادر الصفوّ لابُدّ آتية، وأن من الحكمة والإيمان انتظار الفرج القريب في سكونٍ وطمأنينة ويقينٍ.
- الفرق بين الساخط والراضي:
الفرق بين من ينزعج للمصيبة وبين من يصبر عليها ويرضى بها، أن الأول يجعل كل همّه في الدنيا؛ لأنها في عينه أكبر من حجمها، ولا يستطيع أن يوازن بينها وبين الآخرة، أما المؤمن الصابر الراضي.. فإنه يعلم طبيعة الحياة الدنيا، ويعلم أنها دار عناء وتمحيص وابتلاء، وأن الابتلاء حلقات تتوالى تتراً دون انقطاع، يخرج من حلقة ليدخل أخرى... وهكذا دوالَيْك.
وثمَّ فرق ثان بين الساخط من الابتلاء والراضي به، هذا الفرق هو الإيمان، فالأول ضعيف الإيمان، وكأنه أبرم عقداً مع ربه ألا يتعرض لمحنة أبداً، أما الراضي فهو مؤمن بالقدر خيره وشره، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ومن ثمّ فإن المؤمن تهون عليه مصيبته؛ لأنه دائماً لا يعطي الدنيا أكثر مما تستحق، ويتطلع إلى تحقيق التقوى، ليسعد في الدنيا والآخرة. فما عنوان السعادة؟ وما حق التقوى؟
- عنوان السعادة وحق التقوى:
قيل: إن عنوان السعادة في ثلاثة:
1- مَن إذا أُعطي شكر.
2- وإذا ابتُلي صبر.
3- وإذا أذنب استغفر.
وحق التقوى في ثلاثة:
1- أن يطاع الله فلا يُعْصَى.
2- وأن يُذكر فلا يُنسى.
3- وأن يُشْكَر فلا يُكفر.
- أمر المؤمن كله له خير:
يقول الحبيب(ص): "عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له".
ويقول ابن مسعود في المعنى ذاته: "المؤمن يتقلَّب بين مقام الشكر على النعماء، وبين مقام الصبر على البلاء".
- كلمات في الصبر:
- ما أقرب الفرج من الشدة!!
ما من شدة إلا وسوف تزول بأمر الرحمن، وما من حُزن إلا ويعقبه فرح، وإن مع العسر يسراً، ولن يَغْلب عُسْرٌ ويُسْرَيْنِ، فقد أخبرنا الرحمن الرحيم: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (الشرح/ 5-6).
وما أجمل قول الشاعر في سرعة الفرج بعد الشدة:
فما هي إلا ساعة ثم ينقضي ***** ويَحمَدُ غِبَّ السير مَنْ هو سائر
إن أحداث الزمن لتنطق بهذه الحقيقة، فأول الشدائد تكون مظلمة مؤلمة، وآخرها يكون صبحاً مضيئاً مُريحاً مسعداً.
ما أعظم الفرج بعد الشدة، ما أجمل أن يرى الإنسان النورَ بعد الظلام، والراحة والطمأنينة بعد التعب والاضطراب، فاعلم – أخي القارئ – المُبتلى الصابر – أن الشدائدُ مهما تعاظمت وطالت فإنها لا تدوم مع أصحابها، بل إنها عندما تشتد ويصل سوادها إلى الذروة.. فإن تلك اللحظة هي أقرب لحظات الفرج، فأبشر ساعتها بلحظات هنية بعد أن تجرعت التعاسة، فبعد الليل الغاسق فجر صادق.
فالمؤمن يرى المنح في طيات المحن!!
ويرى تباشير الفجر من ظلام الليل الحالك!!
ويرى في الصفحة السوداء نقطة بيضاء!!
ويرى في سم الحية ترياقاً!!
ويرى في لدغة العقرب طرداً للسموم!!
إن لسان حال المؤمن عند الشدة يقول:
يا شدائد لن تقهريني
يا مصائب لن تهزميني
يا ابتلاءات لن تفتنيني
رحمة ربي قريب من المحسنين
فرج ربي سريع بالمبتلين
ابتلاء ربي دليل على حبه للمؤمنين
إن المؤمن ينظر في الأفق فيرى الفرج قريباً خلف الشدة مباشرة، فالمؤمن المجاهد يرى بشائر النصر واضحة، وإن تكالب عليه الأعداء، ويرى دم الشهداء نوراً وفلاحاً ونعيماً سرمدياً.
كذلك المريض يرى في هُزاله واشتداد المرض عليه بشائر الشفاء!!
والمظلوم كذلك يهفو – برغم مرارة ظلم الناس إلى عدل ربه، فهو القاهر فقو عباده وهو الحكم العدل.
فالمؤمن – أخي القارئ – لا يزل بأول نكبة، ولا يفرح بأول نعمة، فربما انتهى المحبوب من الأمر بما يضر صاحبه، وربما آل المكروه من الأمر إلى ما يسعد الإنسان ويعود عليه بالخير.
إن المؤمن بعقيدة الإيمان بالقدر والرضا به يحتفظ بصفاء دينه وإن فقد صفاء دنياه، وإذا احتفظ المؤمن بصفاء دينه، فإنه سيحيا سعيداً، وسيموت سعيداً، وسيخلد في نعيم ربه الدائم به أن تنتهي حياة الكد والعناء والشقاء.
www.balagh.com