دخل صلاح الدين القدس عام 1187 م ، و بذلك عادت كل مدن فلسطين للمسلمين إلا ميناء صور الذي كان تحصينه قوياً و يتولي الدفاع عنه القائد الصليبي الذكي كونراد ديمونفرات.
و كان سقوط القدس في أيدي المسلمين كفيل بإهاجة عروش أوروبا كلها و الكنيسة المسيحية، و خرج ثلاثة من أكبر ملوك أوروبا في الحملة الصليبية الثالثة هم : فريدريك بارباروسا إمبراطور ألمانيا، و فيليب أغسطس ملك فرنسا، و ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا.
سمع صلاح الدين بخروج جيوش أوروبا متجهة إلي فلسطين، و كان أشد ما يقلقه من هؤلاء جميعاً هو جيش فريدريك بارباروسا المكون من مائة ألف فارس من أشد و أعنف جنود أوروبا.
كان فريدريك بارباروسا يبلغ من العمر سبعين عاماً، و كان مشهوراً في أوروبا بنبله و شجاعته و إقدامه. و عندما وصلته أخبار سقوط القدس في يد المسلمين، بادر باستنفار جيشه الصليبي من كافة أرجاء إمبراطوريته الألمانية التي عُرف عن جنودها العنف و الشجاعة.
سار بارباروسا بجيشه إلي فلسطين سالكاً طريقاً برياً، فعبر المجر و رومانيا حتي وصل إلي بيزنطة ( القسطنطينية) في أكتوبر 1189 م. و كان جيشه أول الجيوش وصولاً إلي أراضي المشرق.
لم يستطع السلاجقة الأتراك في آسيا الصغري وقف زحف هذا الجيش الرهيب، فهُزموا هزيمة نكراء. و تابع بارباروسا تقدمه، ثم توقف في أرمينيا. و كتب إلي صلاح الدين رسالة يحذره فيها من اجتياح جيشه لبلاد المسلمين كلها، إذا لم يسلم المدينة المقدسة للمسيحية.
و علي الرغم من علم صلاح الدين بخطورة هذا الجيش الجرار، إلا أنه رد عليه بنفس الثقة و الإيمان في نصر الله مذكراً إياه أن البحر يفصل بينه و بين أوروبا، في حين أنه لا يوجد فاصل بين جيش صلاح الدين و بلاد العرب التي حوله، لذلك فإن أعداد العرب تفوق أعداد الصليبيين بكثير، و ختم رسالته بتهديد صريح قائلاً " سنواجهكم و معنا بأس الله، و عندما يمن علينا الله بإذنه بالنصر عليكم، لن يبقي سوي أن نستولي بحرية علي أراضيكم، بقدرته و برضاه تعالي".
ظل صلاح الدين يتلقي التقارير التي تفيد بتحركات جيش بارباروسا، و في الوقت نفسه أطلق نداءه لكل بلاد المسلمين بالخروج للجهاد و الانضمام إلي جيشه ليتمكن من صد جيوش أوروبا القادمة، و أولها جيش بارباروسا. كما أصدر أوامره بإخلاء القلاع و الحصون علي الحدود مع بيزنطة و حرق حقول القمح و المخازن في طريق جيش بارباروسا.
بذل صلاح الدين كل ما في وسعه للتأهب لصد الجيش الألماني الذي سرعان ما سيصبح علي أبواب بلاد العرب، و بينما هو كذلك وصلته في يونيو 1190 م رسالة تحمل نبأ وفاة برباروسا. و أعجب ما في الأمر هو الطريقة التي توفي بها. كان برباروسا يعبر نهراً صغيراً يسمي نهر كاليكادوس بجيوشه، و ذلك عندما هاجت الخيول وهي تعبر النهر، و اهتاج جواد برباروسا فألقي به في المياه. و علي الرغم أن النهر كان ضحلاً، و لا تكاد المياه تصل إلي أعلي ساقيه، إلا أن الدروع الثقيلة التي كان يرتديها شدته إلي أسفل، و تدفقت المياه إلي داخل الدرع فأختنق و أصيب بنوبة قلبية و غرق.
بعد وفاة الإمبراطور الألماني، عمت الفوضي و الاضطراب الجيش الألماني المنتظم، و انقسم علي نفسه، فمنهم من رأي الرجوع إلي أوروبا، و منهم من رأي المضي قدماً لإنجاز الواجب المقدس الذي من أجله مات الإمبراطور الجليل.
فاستغل الأتراك السلاجقة هذا الاضطراب، و هاجموا الجيش الألماني من كل اتجاه، فتفرق الجيش من دون قائد في الأرياف و النواحي المجاورة. و من لم يهلك في الحرب هلك بالطاعون الذي انتشر في الجيش. و من المائة ألف جندي الذين جاءوا مع بارباروسا، و صل خمسة آلاف فقط إلي عكا بعد عدة أسابيع.
و الحقيقة أن هذه الحفنة من الجنود الألمان التي وصلت عكا، كانت كفيلة بترجيح كفة الصليبيين في حصار عكا و سقوط المدينة في أيديهم. فماذا كان سيحدث لو قدر للمائة ألف أن يصلوا إلي فلسطين ؟
كان يمثل جيش باراباروسا خطراً محدقاً ليس فقط علي فلسطين و القدس، و إنما علي كل بلاد العرب في الشام و فلسطين و مصر، و لكن الله شاء أن يفني هذا الجيش الرهيب دون أن يطلق سهم واحد علي بلاد العرب.
و قال أحد المؤرخين العرب في ذلك " لو أن الله لم يشمل بلطفه و كرمه المسلمين بتقدير الموت علي ملك الألمان في الوقت الذي كان يستعد فيه لقهر الشام، لكان الناس يقولون اليوم : كانت بلاد الشام و مصر في ما مضي من بلاد الإسلام ".