خمس مقولات في حاجة غلى التدقيق
ولقد أفرزت الأسباب السابقة كلها فكرا متكامل العناصر ينسبه أصحابه إلى الإسلام ويرون فيه وحدة المنهج الصحيح لتبليغ الإسلام والدعوة إليه وتطبيق شرائعه بين الناس.وانتشر هذا الفكر وتعددت صياغاته دون المساس بجوهره، وصارت عناصره مسلمات لا تتسع العقول أو الصدور لمناقشتها، حتى لقد تصور كثير من ذوي النيات الحسنة والعلم القليل أن مثل هذه المناقشة تنطوي بالضرورة على خصومة للإسلام، وخروج على أصوله وكيد للإسلام والمسلمين. وترجع هذه المعالم إلى المقولات الخمس التالية:
1 ـ أن المجتمعات المسلمة المعاصرة قد صار فسادها أكثر من صلاحها، وأنها تمثل جاهلية جديدة، وأن الواجب الأول على كل جماعة إسلامية راشدة، هو هدم هذه المجتمعات واقتلاع قيمها الفكرية والسلوكية من أساسها، وهكذا صار المجتمع في جملته خصما وعدوا.
2 ـ أنه- ما دام الحال كذلك- فإن الجماعة الإسلامية التي يتبايع أفرادها على العمل بالكتاب والسنة، ويتعاهدون على طاعة أميرهم في المنشط والمكره، هي- وسط المجتمع الجاهلي- جماعة المسلمين التي لا تجب الطاعة إلا لها، ولا يجوز الإحساس بالانتماء لغيرها. وشيئا فشيئا تغدو الدولة المدنية القائمة بكل أجهزتها ورموزها ومؤسساتها كما لو كانت مجرد عقبة مادية في وجه الدعوة الإسلامية، فلا طاعة لها، ولا شرعية لقراراتها. وبذلك تولد بذور الخروج على الدولة واستباحة أموالها وحرماتها، ويبدأ مسلسل العنف المتبادل الذي سنظل نرفع الصوت عاليا داعين إلى وقفه وكسر دائرته الخبيثة.
3 ـ أن المجتمع الدولي كله آثم، ومنظماته أدوات قهر وظلم وإعلانات حقوقه كذب وتضليل، والحرب بين الدنيا كلها وبين المسلمين قائمة لم تنقطع ولن تنقطع، وأن مسيرة البشرية- خارج الإسلام التاريخي والجغرافي- مسيرة ضلال وفساد لا معنى لمسايرتها أو الحرص على الارتباط بها أو الاشتراك في شيء من سعيها. وبذلك تبذر- كذلك- بذور عزلة المسلمين واغترابهم، وهي العزلة التي مكنت لخصومهم منهم، وساهمت- جزئيا على الأقل- في تشويه صورتهم والافتراء على حضارتهم ودينهم وتنفير سائر الناس والشعوب منهم ومن ثقافتهم.
4 ـ أن المسلمين مأمورون- جميعا- بالنهي عن المنكر وإزالته، وبالأمر بالمعروف وإقامته، وأن أعلى درجات ذلك أن يكون باليد، وألا يكتفى فيه بنية القلب ودعوة اللسان. فإذا أضفنا إلى هذا التصور ما قدمناه من تصور عن جاهلية المجتمع، وفساد الزمان، وضلال العالم، وهداية الجماعة الإسلامية الصغيرة التي يقودها إلى الحق أميرها، أدركنا أي اضطراب وأي فوضى وأي أذى يمكن أن يصيب المجتمع من جراء تصور تسقط فيه الحدود بين واجب الأمر بالمعروف العام، الذي هو فرض كفاية والذي له حدوده الشرعية والسياسية التي ضبطها علماء المسلمين قديما وحديثا، وبين واجب التنفيذ المباشر- باسم الدولة- إزالة للمنكرات وإقامة للعدل والصلاح، وهو الواجب الواسع الذي يباشره القضاة، والمحتسبون، وولاة المظالم، وولاة الشرطة، وجامعو الزكوات وفرائض المال.
5 ـ أن أمر هذه الأمة- في حاضرها ومستقبلها- لن يصلح إلا بما صلح به أولها، وبهذه الكلمة التي هي كلمة حق وضعت في غير موضعها، وفهمت على غير حقيقتها ومعقولها، وقف كثير من رافعي شعار الإسلام في وجه كل تجديد فقهي أو سياسي أو اجتماعي، وتصوروا كل أمر من هذا لم يكن عليه سلف هذه الأمة، خروجا على الدين، وتفريطا في الشريعة، ومجاراة لغير المسلمين.
دعوات العزل..لماذا؟
وفي ظل هذا التصور الفاسد لمعنى السنة والبدعة والتجديد، ومراعاة اختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال ارتفعت مقولات لا أصل لها في الفهم الصحيح لكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، على رأسها أن كل جديد بدعة وأن الاحتياط لدين الله يقتضي أن نتابع أبا بكر رضي الله عنه حين قال: كنا نترك مائة باب من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام. ومنها أن الشورى معلمة لا ملزمة، وأن الأمير واحد لا يتعدد لقوله (صلى الله عليه وسلم): إذا كنتم ثلاثة في السفر فأمروا عليكم واحدا . ومنها أن الديمقراطية نظام لا يعرفه الإسلام ولا يقره، وأن الكثرة ليست دليلا على الحق والمصلحة، وأن الفنون لا تنفك عن آثام ملازمة وملابسة لها، وأنها لهو ولغو لا مكان له في مجتمع المسلمين، وأن المجتمع الإسلامي مجتمع انفرادي لا يشترك فيه النساء مع الرجال استنادًا إلى حديث ضعيف مؤداه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) سأل ابنته فاطمة: أي شيء أصلح للمرأة، فقالت: ألا ترى رجلا ولا يراها رجل. فقال (صلى الله عليه وسلم): ذرية بعضها من بعض.
وهكذا ينتج هذا الفكر الذي أفرزته عصور التراجع والهزيمة والرغبة في توكيد الذات الحضارية دعوات مترابطة إلى عزل المسلمين عن العالم. وعزل الدعاة عن مجتمعاتهم، والقطيعة بين حركاتهم وسائر حركات الإصلاح من حولهم، وعزل النساء عن الرجال، وإقصائهن عن المجتمع. وضاعت- في زحام التراشق بنصوص لا يعرف المتراشقون بها حقيقة روايتها ولا صواب درايتها - ضاعت الرؤية الإسلامية السوية للعالم، ولمكان المسلمين فيه، ولدور المسلم وسط أهله وعشيرته. نسي قوله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ونسي قوله (صلى الله عليه وسلم): الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها ونسي قوله تعالى: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ونسي قوله (صلى الله عليه وسلم) عام الفتح: بل اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله قريشا ، ونسي قوله (صلى الله عليه وسلم): إن الرفق ما دخل في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه ونسي قوله (صلى الله عليه وسلم): إن النساء شقائق الرجال ونسى أنه (صلى الله عليه وسلم) رفض دعوة جار له للغداء حين لم يوجه الدعوة - معه (صلى الله عليه وسلم) - إلى عائشة رضي الله عنها، ونسي قوله تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون .
إن المحصلة النهائية للعوج الفكري الذي أصاب الثقافة العامة التي يروج لها اليوم بين المسلمين محصلة ذات بعدين لا ندري أيهما أعظم خطرا وأفدح ضررا: بعدها الأول جمود المسلمين على الموجود وتقاعسهم عن تحصيل العلوم العقلية والتجريبية، التي بها يكون فلاح الأمة وصلاح الشعوب، وانكفاؤهم على الماضي يجترون علوما لم يعد كثير منها قادرًا، على إخراجهم مما هم عليه إلى ما ينبغي أن يكونوا عليه.وبعدها الثاني عزلتهم عن العالم واغترابهم عن شعوبه وذهولهم عن العصر وشرودهم عن مسيرة البشرية التي ابتعثهم الله لهدايتها وريادتها.
مداخل فكرية للنهضة