أعلن خبر رمضان .. وذهب الأطفال في الشوارع والأزقة يعبرون عن فرحتهم ، ويكتبون
أمانيهم في لقاء ذكرياتهم من جديد ..
امتلأت شوارع قريتي بأفراح الصغار ،
وتعالت في مسمعي أصوات ألعابهم يعبرون فيها عن لقاء حبيبهم بعد الفراق .. !
ها
هي أمي تملأ قلبي سعادة وفرحاً ! وها هو أبي ركن بيته وفخر أبنائه قاعد في أفراحه
.. وها هم إخوتي يؤلّف بينهم رمضان لحظة وصول خبره .. فيذكرهم روح ما هم فيه من
نعمة !
خرجت من بيتي .. أخرجني لهو الصغار ، وفرح الصغار ، وأخرجتني لحظات فرح
تعانق قلبي من جديد .. وتدفع بي إلى الخارج دون ترتيب أو إعداد للخروج
ليل
كالفجر في حس ناظره ، ليل أرى فيه كل شيء .. وليل أشعر فيه بكل شيء .. إنها لحظات
الحب تدفع بصاحبها إلى البكاء من الأفراح ..
جلست على بابي .. وفتحت جوالي على
تهنئة مسموعة أرسلها إلىّ محب في لحظات استقبال الشهر .. رمضان .. يارمضان ..
يارمضان .. له الكتاب تلاوة وقيام .
تذكرت بهذه الكلمات رمضان في كل شيء ..
وذهبت عيني تدفع بالدموع لا تسعها الأفراح !
وذهبت أتأمل .. فتاهت بي الذكريات
إلى إنسان عاش معي ليل رمضان في عامه المنصرم وطوته الذكريات بعد أن رحل من عالم
الأرض فلا أثر اليوم لقدمه ، ولا سماع لصوته ، ولا أحاديث تديرها الأيام في لقائه
.. وإنما هي الذكريات ..
ذهبت أتأمل وأنا على بوابة بيتي .. وإذا بمسجدي يحدثني
عن من عَمَرَه في كل أسبوع في حضوره لدرسه الأسبوعي ، يسوقني في هذه اللحظات إلى
تأمل صورته داخل المسجد وهو يقرأ الدرس ، ويناقش مسألة ، ويحاور يستفهم عن دليل ،
ويسوقني كذلك لجنبات المسجد يريني في تلك الزوايا أحاديث ود دارت وهو يرتّب فيها
للقاء ، ويعد لبرنامج ، ويشاور في قضية خاصة .. يحدثني مسجدي لحظات ( إبراهيم )
لحظة لحظة في همه وحرصه وأدبه وذوق أخلاقه وقد رحل قبل أن يعانق شهر رمضان هذا
العام بثلاثة أيام ، رحل هو وزوجه وابنه الوحيد ، فيا لله ما أقسى فراق الأحبة ..!
تسوقني اللحظات إلى أرض فلسطين .. إلى جوار المسجد الأقصى .. إلى غزة منه
بالذات .. فتحدثني عن ليل رمضان بيت مهدم ، وشمل ممزّق ، ورحلة عناء لم يستوقفهم من
ليل رمضان شيء .. ولم يتغيّر عليهم من الحرب والدمار والأسى شيء . فيا لله ما أقسى
هذه اللحظات !
تسوقني الذكريات إلى أرض الرافدين .. إلى العراق .. طفل يصرخ لم
يجد أسرته بعد ! وشيخ كبير مسن يجلس على الأرض ويلتحف السماء لا يجد شربة ماء ينتظر
قدوم الموت ولحظات الفراق ..!
في كل لحظة تذهب أنفس صوت مدفع وقنبلة .. وفي كل
لحظة أنين عجوز وأرملة مقعدة ..!
وتسوقني الذكريات إلى إفغانستان والصومال ،
وأرض للمسلمين منكوبة في مشارق الأرض ومغاربها لم يستوقفها عن رمضان إلا الذكريات
الغابرة في طيات الزمن تذكرهم بأيام خلت ، وتاريخ جميل محته الأيام .
طال ليلي
وقد ذهبت بي ذاكرتي إلى كل بقعة لم يجد فيها أهلها لرمضان ذات المعنى الذي أجده ..
وعادت هنا في مجتمعاتها وإذا بها تقلّب لي مواجع تذكرني بها من جديد ، أسرة سمعت
بأخبار رمضان فبكت مجتمعة في لحظات اللقاء تذكرت بهذا القدوم لحظات معيلها وهو
بينها العام الماضي ، جاء رمضان ليذكرها به وقد غادر إلى غياهب السجون ، وأسرة تبكي
معيلها الآخر وهو مشلول على سريرها تقلبه الأيدي بعد إن كان نور الظلمة ونجدة
المحتاج ، وعون الأسرة في جمع شتاتها ، وهي في كل لحظة تنقلني إلى ذكرى تضطرني
للبكاء من جديد .
وتسير بي الذكريات إلى معالم جميلة وذكريات رائعة تنقلني فيها
إلى رؤية شاب تجدد فيه الأمل من جديد ، فعاد مستقيماً بعد انحراف ، ومهتدياً بعد
ضلال ، وهاهو يبكي لأول وهلة في حياته في لقاء رمضان ، يقول ما كنت أعرف لرمضان هذه
الأفراح ، وأجد له اليوم في قلبي ما لا يمكنني التعبير عنه
وتسوقني إلى أسرة
اجتمع شملها بعد فراق ، وتعانقت قلوبها بعد أن ذاقت حرارة القطيعة ومرارة الهجر ،
فتآلفت من جديد ، وهاهي تجتمع لأول وهلة في رمضان منذ سنوات .
وتسوقني اللحظات
إلى كل لحظة حب جمعت بين زوجين ، وآلفت بين صديقين ، وسكنت بيتاً فعمرته بالأفراح
..
وعدت إلى نفسي ، فذكرتها بما هي فيه من نعمة ، وقد عاد عليها رمضان وهي تعيش
لذة الإيمان ، ولذة الاجتماع ، ولذة الأمن والسعادة في بيتها ومجتمعها وأمتها ..
فكفكفت دمعي ، وعدت إلى بيتي ، وأخذت على نفسي وعداً صادقاً بأن استثمر في رمضان كل
فرصة ، وأبادر كل لحظة ، وأعيش رمضان أجمل ما يعيش إنسان . والله المسؤول أن يعين
ويوفق ويسدد ويكتب التوفيق لكل من يأمله . وهو المستعان وعليه التكلان .