د. عادل كامل الآلوسي
الحب في التفسير والأدب واللغة
يعود اهتمام المفسرين والفقهاء بقضايا الهوى والحب في التراث إلى أسباب فقهية، وإن كانت أ‘مالهم منصبة على الهوى وأنواعه وأسبابه وآثاره في الأدب والشعر، وقد رجع هؤلاء في تنظيراتهم إلى النصوص الدينية. ولكننا نلاحظ أن مقولاتهم ترشحت عنها مواد غريبة، أكثرها مأخوذ أو منقول عن أسفار العهد القديم، وقد اختلطت ـ لذلك ـ آراؤهم في موضوعات الحب والهوى واضطربت، وأسباب ذلك أن النصوص الواردة في العهد القديم والذي يطلق عليها (الإسرائيليات) مختلفة أصلاً، وقد ظهر هذا الاختلاف بحكم تعدد ترجمات التوراة، وتباعد الحقب الزمنية بين كل واحدة منها، وما أضيف إلى التوراة.
ولقد قاد هذا الاختلاف في ترجمات التوراة ورواياتها إلى اختلاف هؤلاء المفسرين والفقهاء في تأويلهم، فأخذ قسم منهم عن التوراة المتداولة التي تختلف عن الأصل، وإن كان بعضهم قد تنبه إلى ما فيها من اختلاف وتناقض وتبديل ولسنا معترضين على اجتهادات هؤلاء المفسرين والفقهاء وقدرتهم على معالجة النصوص، واستنتاجاتهم الذكية، ولكننا نتحفظ على كثرة ما توسعوا فيه من آراء حول تلك الموضوعات بما لا يتصل بضرورات التفسير القرآني، فقد حملوا تنظيراتهم عبئاً وأشاعوا بعض الحيرة في تفسير النصوص نتيجة إقحام بعض تلك الإسرائيليات.
ولكننا ربما نلتمس العذر لهؤلاء الأجلاء، في أنهم أرادوا نقل كل معارف عصرهم المتوارثة خدمة لأهدافهم، تاركين أمر غربلتها لمن بعدهم، لاحتمال أن يكون فيها فائدة في إيضاح بعض ما أجمل من النصوص التي اعتمدوها. حيث نجد شيئاً من الغرابة لدى بعض المجتهدين فالغزالي مثلاً، يما يتصل بعلاقة الرجل والمرأة، تجده يفسر ما ورد في سورة الفلق تفسيراً ينفرد فيه عن سواه، وإن كان يصدر عن قدرة في الاجتهاد.
ومن هذه الاجتهادات، تفسير قتادة (ت 117هـ) للآية الكريمة: (ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) البقرة/ 286، أي بالنساء. وفسر طاووس الآية الكريمة: (وخلق الإنسان ضعيفاً) النساء/ 28، أي في أمر النساء لا يصبر عنهن، وقد ذهب إلى هذا التفسير ابن قيم الجوزية.
واختلف الفلاسفة في نظرتهم إلى مفهوم الألفة والحب واختلفوا في مصدر هذه العاطفة، ولعل (إخوان الصفا وخلان الوفا) –النصف الثاني من القرن الرابع الهجري- كانوا السباقين إلى معالجة هذا الموضوع، ففي رسائلهم المشهورة فصل عن العشق، قسموا فيه العشق أصنافاً تتناسب مع أصناف النفوس.
ويعلل إخوان الصفا المحبة التي تكون بين شخصين بأن سببها (اتفاق مشاكلة الأشخاص في أصل مولدهما)، ثم لا يكتفون بهذا التعليل الفلكي بل يردفونه بتعليل فلسفي ديني، هو أن العناية الإلهية ربطت أجزاء الكون وأطرافه برباط من العلية والمعلولية، فالمعلول يشتاق إلى علته وينزع إليها، والعلة ترأف بالمعلول وتحن إليه.
وتعرض إخوان الصفا للحب، في تفسيراتهم، لآيات من القرآن الكريم، في سياق تناولهم بموضوع الجنة، وضربوا مثلاً في تكوينها بتكوين نفس العاشق والمعشوق.
ولقد حاول إخوان الصفا تقديم تعليل جديد لظاهرة الألفة والمحبة عامة والعشق خاصة، فقالوا: (العشق لا يكون دائماً للأشياء المستحسنة بسبب اختلاف أوجه الاتفاق بين كل عاشق ومعشوقة) وضربوا مثلاً لذلك، العلاقة بين كل حاسة ومحسوساتها، فالعين لا تشتاق إلى الألوان والأشكال، ولا تستحسن إلا أفضلها، والأذن لا تشتاق إلا إلى الأصوات والأنغام، ولا تستحسن إلا أفضلها، ولما كانت تراكيب أمزجة الحواس والمحسوسات كثيرة التغير غير ثابتة على حالة واحدة، صارت القوى الحساسة في إحساسها لمحسوساتها متغيرة، فنجد واحداً من الناس يستلذه في وقت ما شاء، ويستحسنه في وقت آخر ويكرهه ويتألم منه، كل ذلك، بحسب اختلاف التراكيب وفنون الأمزجة.
وكان الفارابي (ت 339هـ) قد تعرض لبعض قضايا الألفة والمحبة من خلال فهمه الفلسفي لبعض آيات القرآن الكريم مثل الآية: (هو الأول والآخر) الحديد/ 3، فيقول: إن الله هو المعشوق الأول، فلذلك هو آخر كل غاية، ويرى الفارابي إن الله عاشق، يعشق نفسه، لأنه خير محض، وجمال محض.
ولابن سينا (ت 428هـ) رسالة في العشق تحدث فيها عن عشق الظرفاء للأوجه الحسان، ويرى ابن سينا أن العشق نزوع إلى الكمال الذي ينبعث عن الخير المحض. ويشير ابن سينا إلى دور المحبة في توطيد الألفة وخاصة بين الزوج والزوجة، فالمحبة لا تعقد إلا بالألفة، والألفة لا تحصل إلا بالعادة، والعادة لا تحصل إلا بطول المخالطة، ويعيد ابن سينا أسباب الفراق بين المحبين إلى عدم الكفاءة، وسوء المعشر.
ويفرق ابن سينا بين العشق والشوق، ويرى أن العشق هو (السرور بتصور المحبوب في النفس) أو (هو الابتهاج بحضورها) أما الشوق فهو (محاولة إتمام هذا الابتهاج المصور بالتحسس الواقعي).
أما الغزالي (ت 505هـ) فيضع للحب أصولاً متعددة وأسباباً مختلفة، ولا يقف به عند أصل واحد، ولا سبب منفرد. وللمحبة ونقيضها البغض عند الغزالي أصول أربعة: فالأصل الأول: ان الانسان لا يحب إلا ما يعرفه ويدركه، فالمعرفة والإدراك شرط سابق للحب. والأصل الثاني: ان الانسان لا يحب إلا ما يوافق طبعه ويلائمه لأنه يلذه ويسيره، ولا يبغض إلا ما ينافر طبعه. والأصل الثالث: ان المحبوبات تختلف باختلاف الحواس والإدراك، فلكل حاسة نوع لذة تلائم وظيفتها، فالعين تلذ بأبصار الصور الجميلة، والأذن تلذ باستماع النغمات المتناسقة. أما الأصل الرابع: فللأخلاق أثرها في تكوين الحب أو البغض فكلما كان الخلق حسناً أوجب التحاب والتآلف والتوافق، وكل ما كان سيئاً كان التباغض والتحاسد.
واهتداء الغزالي إلى هذه الحقائق والأصول يجعله سابقاً لأصحاب مذهب النشوء والارتقاء أولئك الذين يجعلون (حب البقاء) أقوى دوافع الحياة الفردية، وسابقاً للنفسانيين المحدثين، ففي طبع الانسان ميل إلى دوام وجوده، ونفرة من العدم والهلاك. والغزالي يقول: (إذا عرف الانسان الله أحبه، ومتى عرفه تبرأ من كل ما في العالم، ولذلك فالحب هو المعرفة بالذات).
ومن أوجه الخلاف في قضايا الألفة والحب بين المفكرين والفلاسفة والمنظرين في التراث العربي، قضية الاختيار والاضطرار في العشق، وقد أثار ذلك جدلاً واسعاً، وهو انعكاس للآراء القدرية والجبرية.
يميل كثير من المفكرين إلى أن الحب قضاء من الله، ولا مرد لحكم الله، قال تعالى: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون)، ولذلك يرى بعضهم: ان وقوع الحب كوقوع العلل والأمراض. إذاً فهو قضاء من الله لا مفر منه، وانه لا ملامة على العاشقين إذا حل بهم.
وقال فريق آخر ان العشق اختياري، تابع لهوى النفس وإرادتها، فالعشق حركة اختيارية للنفس نحو محبوبها وليس بمنزلة الحركات الاضطرارية التي لا تدخل تحت قدرة العبد.
وأهل العشق فيما نرى، ينتمون إلى الجبرية من حيث يعلمون أو لا يعلمون، وهذا جميل بثينة يحاور ابن عمه ويقول له: يا أخي لو ملكت اختياري لكان ما قلت صواباً، ولكني لا أملك الاختيار، ولا أنا إلا كالأسير لا يملك لنفسه نفعاً.
إن الاهتمام بالدراسات الفقهية هو في صميمه اهتمام بالعلاقات الاجتماعية وما يترتب عليها من حلال مباح أو حرام محظور، ويدرس الفقه طبيعة العلاقة الخالدة بين الرجل والمرأة في أكثر جوانبها التشريعية، وفي هذا المعترك لم ينس الفقهاء القضايا الانسانية والوجدانية.
وقد ترك بعض المنظرين البارزين مصنفات لا تستدعيها الضرورة الفقهية أكثر مما يستدعيها الميل إلى الخوض في أمور العشق، لذلك نجد أكثرهم، وهم يكتبون في الحب، يقعون بين نزعتين: الأولى: هي إشباع شغف الناس بموضوعات الموقف الفقهي من الهوى ومقولاته. والثانية هي حالة الإحراج التي كانوا يجدون أنفسهم فيها، وهم يخوضون في شأن يبدو أنه ليس من صميم تخصصهم، وربما لشعورهم بأن الحديث في الحب لا يتناسب مع نزعتهم العلمية الجادة. ومع ذلك فقد استطاع بعضهم التوفيق بين الاهتمامين وأقاموا مداخلات ذكية وجميلة بين الضرورة العلمية ومسائلها، والحب وقضاياه.
وحين نقرأ كتب بعض المفكرين هذه نجد أن لغة الفقه تكاد تختفي، ليصبح الحديث في الجوانب الوجدانية هو الهدف، فهم يدعون إلى الحب العفيف، ويغمرون المحبين العذريين بالعطف الشديد، ومن هنا يمكن لنا اعتبار كتب هؤلاء المصادر الأولى والحقيقية لمن يبحث في الحب، ما يصلح منه وما لا يصلح.
ولعل هؤلاء المفكرين قد سبقوا الأدباء والشعراء، ففتحوا للهوى أبواباً جديدة، وهم أول مَن وضع للألفة والمحبة علامات ومراتب وأعراضاً. وهم بهذا قد ابتكروا للحب منهجاً جديداً من الدرس والتحليل يقترب إلى ما نعرفه اليوم بعلم النفس، ووضعوا مجساتهم على أكثر الأمور حساسية في النفس الانسانية وميولها وطبائعها، وأسهموا بصياغة نظرية عربية في الألفة والمودة والحب.
وحينما يتحدث هذا الفريق من المفكرين عن الحب فإنهم لا يتحدثون عن شيء يملك الانسان التحكم فيه، أو يستطيع تصريفه، فابن حزم الأندلسي (ت 456هـ) يتحدث عن الحب كداء مستعص، وعلة متمكنة، لا دخل للارادة فيها، وكأن الحب بطبيعته علة يشتهيها كل إنسان، ولا يود سقيمها البرء منها.
وابن داود الظاهري الفقيه (ت 290هـ) يرى أن الحب يقع في النفس دون أن يستطيع له رداً، كما أن الحب لا يكتسب اكتساباً وابن داود، فقيه معروف بالإيمان بظاهر النص وصنف كتاب (الزهرة) في الحب والمحبوب، ويُعدُّ رائداً في البحث عن معاني الألفة والمودة، وله رؤية خاصة هي الرؤية العربية التقليدية للحب العفيف، وهو يدعو إلى الود ويقول: (إن من حسن وداده قبح استفساده، ومَن صحت مودته وجبت طاعته) والحب عند ابن داود باق خالد، ويرى أن الحب شجاعة.
ويقول:
مَن كان ذا حزم وعزم في الهوى
وشجاعة فالحب منه أشجع
ولا تخلو آراء ابن حزم من نزعة فلسفية، وذهب بعض الباحثين إلى أن آراءه متأثرة ببعض الأفكار الأفلاطونية.
وابن داود شخصية متميزة في تقديمها صورة مشرقة للحب عند العرب، ولا نعرف إلا القليل عن حياته الشخصية، وكان شاعراً متعففاً، وأغلب الظن أن الأشعار الغزلية الواردة في كتاب الزهرة هي لابن داود نفسه، ولقد لجأ إلى التورية الشفافة حرصاً منه على الظهور بمظهر الفقيه العالم، وليس الشاعر المتغزل العاشق.
وابن حزم فقيه آخر، كرس قلبه للعلم والحب معاً، وكتابه معروف مشهور هو (طوق الحمامة في الألفة والألاف). وهذا الكتاب ليس كتاباً في الحب وحسب، وإنما هو كذلك ترجمة ذاتية للكاتب، فقد ذكر فيه الكثير من نفثات نفسه، ودخائلها وخباياها، وما انتابها من أزمات، وألمّ بها من شدائد، وهزها من أحداث ووقائع عبّر عنها، غالباً، بالشعر.
ولقد قصر ابن حزم الفصل الأول من كتابه على الكلام عن الحب وماهيته، فالحب لا تدرك ماهيته بالفكر، كما يقول، وإنما تدرك بالتجربة، في ذلك يقول: (الحب أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، لا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، والحب ليس بمنكر في الديانة، ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله…).
وواضح من هذا النص ان آراء ابن حزم إنما هي نتيجة حرص واضح على إبراز تلك العاطفة الروحية السامية، وانه خبرة معاشة، لا يدرك حقيقته إلا من كابده وعاناه.
ولست أستطيع مقاومة إحساسي بأن ابن حزم كان ينطلق ـ فيما يقوله ـ من تجربة خاصة في الألفة والحب، وأحياناً من تجارب وخبرات آخرين ممن كان يعرفهم دون أن يشير إليهم بالاسم.
وابن حزم، على كل حال، يتأثر بمعطيات فلسفية، فيرى أن الحب هو (اتصال بين أجزاء النفس المقسومة في هذه الخلقية في أصل عنصرها الرفيع، فما تناسب في النفوس اتصل، وما تخالف منها انفصل، وان سر التمازج والتباين في المخلوقات إنما هو الاتصال والامتثال، والشكل يستدعي شكله، والمثل إلى مثله ساكن.. والتنافر لا يكون إلا في الأضداد، والموافقة لا تكون إلا في الأنداد).
والمحبة ـ كما يراها ابن حزم ـ أنواع، فهناك محبة القرابة، ومحبة الألفة، ومحبة التصاحب، ومحبة البر، ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبة المحبين لسر يجمعان عليه، ثم محبة المتحابين في الله عز وجل، ومن هنا فانه لا فناء لهذه المحبة إلا بالموت.
ويتناول ابن حزم علامات المحبة، ومراتبها وأمراض الحب وآفاته، وكأنه بذكره لهذه الآفات ينبه العاشقين إلى الأخطار التي تحدق بهم، وكأنما هو يشفق على المحبين من أن تتبدد أحلامهم، وكأنه يتمنى عليهم أن يتجاوزوا الكدر، ويغتنموا الزمن ليصلوا بحبهم إلى أسمى مراتب الحب.
ثم ان إقدام ابن حزام على تأليف رسالته هذه (طوق الحمامة) إنما هو من باب الآمر بالمعروف، وجنة لاتقاء شرور الظلال على حد تعبيره وهكذا استطاع هذا الفقيه أن يوفق بين مواقف الفقهاء ومواقف العشاق، كما استطاع أن يمازج بين العشق والأدب من غير أن تتدخل لغة الفقه في الموضوع.
ومن المنظرين، جعفر بن أحمد الحسين السراج (ت 500هـ) ولد في بغداد، وفيها توفين وكان أعلم أهل زمانه، له تصانيف شتى أشهرها (مصارع العشاق) أخذ عنه الكثيرون، وأخذ هو عن كثيرين، وهو كتاب يستهوي القارئ ويمتعه.
ومن كتابه يبدو السراج مطلعاً اطلاعاً واسعاً على مَن سبقه في الموضوع، فهو يسند رواياته إلى أصولها، ويجمع من الروايات ما يتعلق بالعشاق الذين صرعهم الحب، وربما وجدنا من أخبارهم ما لا يصدق.
وروايات (المصارع) خليط مما هو جاهلي واسلامي وأموي وعباسي، وكلها نزيه يسوده العفاف، وهو يكرر في أكثر من موضع خوفه من الله و(عذاب الآخرة) و(التوبة) و(الاستغفار) مما يدل على نزعته الدينية والزهدية التي تكاد تهيمن على قصص كتابه.
أما أبو الفرج عبد الرحمن، ابن الجوزي (ت 597هـ) فهو فقيه معروف، وصاحب رسالة أخرى في الهوى أسماها (ذم الهوى)، وهو مثل سالفيه يبرر تأليفه لكتابه بشتى المعاذير.
وكتاب (ذم الهوى) لابن الجوزي يمكن أن يعد من أقدم مؤلفات (علم النفس)، عند العرب، لولا افتقاره إلى مصطلحات علم النفس الحديث، وابن الجوزي من أكبر مَن نظر في حالات الحب في القرون العربية الوسطى، وله آراء سلبية تجاه العشاق بل تطرق في ذم الهوى ويعتبره ضرباً من الحماقة يجب اتقاؤه.
ويناقش ابن الجوزي موضوع الحب العذري فهو في رأيه شكل من أشكال الموت لا حاجة لنا به، ونحن نلاحظ أن ابن الجوزي قد سبق فرويد بعدة قرون في نظرية (غريزة الموت)، فآراء ابن الجوزي تنطوي انطواء ضمنياً على هذه النظرية التي يلخصها بمقولته أن الحب العذري موت بطيء ولذلك لم يستطع هذا الفقيه أن يتخلص من تناقضه بين قبوله الحب وإنكاره.
ويرى ابن الجوزي ان على الانسان ألا يحب لأن الحب إشغال للذهن، أي أن يبقى الانسان من غير وعي، ونسي ابن الجوزي ان الوعي هو الشقاء بعينه، وهو رأي قاله المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ
ولا ندري هل كان ابن الجوزي قد بالغ فذم الهوى كل هذا الذم أم كان يراعي ظرفه كفقيه؟
أما ابن قيم الجوزية (ت 751هـ) فعالم فقيه، له كثر من سبعين مؤلفاً، وقد أسهم مع غيره من المفكرين والفقهاء في عرض رؤيته الخاصة، فحاول جاهداً أني عقد صلحاً بين الهوى والعقل، وقال: (ان في هذا الصلح محاربة للنفس والشيطان) ومنهج ابن القيم الجوزية توفيقي إذاً، فهو يعقد صلة ترضية بين مقتضيات تعاليم الدين وأمور الدنيا، فيأخذ من هذا طرفاً ومن ذاك طرفاً وهو يضحك قارئه تارة، وتارة يبكيه، ويرغبه في الحب طوراً، وطوراً عنه ينهاه، وإن شاء القارئ لابن القيم وجده واعظاً وإن شاء وجده لنصيبه من وصل المحبوب مرغباً).
ويمكن اعتبار داود بن عمر الأنطاكي، الضرير (ت 1008هـ) الطبيب الأديب، منظراً، فله آراء في الفقه ورسائل في الحكمة والفلسفة، وأشهر كتبه (تزيين الأسواق في أخبار العشاق) وهو كتاب كبير ينم عن ذوق في الاختيار رفيع.
والأنطاكي يدعو إلى الحب العفيف ويرغب فيه، ويذكر في كتابه علامات الحب واستشهاد المحبين وأخبار العاشقين، ويحمل على الفسّاق من العشاق، ويربط بين العشق والزهد والعبادة كما يتحدث عن أمراض الحب، ويضرب أمثلة من دلال الحبيب وهجره وصدوده وما يكدر ويغم العاشقين مما يؤذون بنهاية الحب ويستعرض ذلك بأسلوب مبسط وجذاب.
وهناك الأديب شهاب الدين أحمد بن حجلة المغربي المعروف بابن أبي حجلة (ت 776هـ) صاحب (ديوان الصبابة) وهو من طراز كتب العلماء في العشق أجاد فيه ابن أبي حجلة وأضاف في مسائل العشق، واجتهد في أن يضع للألفة والحب مراتب وأسماء وعلامات، وذكر ما قيل في جمال المرأة وعشقها كما ذكر أمراض الحب وآفاته، وزيّن مقولاته بالشعر الجميل، والحكمة النادرة، والخبر الشارد.
قلنا ان مقولات المنظرين والمفكرين والفقهاء في الحب، جاءت عن فهم واضح للنفس الانسانية وتجربة واقعية، فابن حزم وابن داود، خبرا الحب وعايشاه في حياتهما، لذلك قالا الذي قالاه بصدق وأمانة. وهذا ابن داود كان يدرك لغة العاشقين، ومعاناتهم فالسراج، صاحب مصارع العشاق يورد هذا الحوار بين ابن داود الفقيه وسائل يسأله:
يا ابن داود يا فقيه العراق
أفتنا في قواتل الأحداق
هل عليها القصاص في القتل يوماً
أم حلال لها دم العشاق
ولا يتردد ابن داود بالجواب:
عندي جواب مسائل العشاق
فأسمعه من قلق الحشا مشتاق
لما سألت عن الهوى أهل الهوى
أجريت دمعاً لم يكن بالراقي
أخطأت في نفس السؤال وإن تصب
تلك في الهوى شفقاً من الأشفاق
لو أن معشوقاً يعذب عاشقاً
كان المعذب أنعمُ العشاق
وتشتمل حياة الفقهاء الخاصة على مواقف تشير إلى الاهتمام بالمرأة وجمالها، مما يعكس دقة النظر ورهافة الحس، ومن ذلك وصف ابن الجوزي لامرأة خضبت رؤوس أصابعها بالحناء، ويذكر الجاحظ أن عبدالله بن عباس كان يردد شعر الغزل في المسجد الحرام.
ومن أمثلة اهتمام الفقهاء بالمرأة وجمالها ان ابن أبي عتيق، حفيد أبي بكر الصديق (رض)، كان يصف لعمر بن أربي ربيعة حسان النساء في مكة، فيزيد عمر في وصفهن شعراً.
وكان الفقهاء يتعاطفون مع العاشقين، ويقدرون فيهم معاناتهم ويروي الإمام الشافعي أن فراق الحبيب من الأرزاء فيقول:
وما الدهر إلا هكذا فاصطبر له
رزية مالٍ أو فراق حبيب
وكان عبدالله بن عباس يستمع مرة إلى شعر عمر بن أبي ربيعة وعنده جماعة، فأدهش الحاضرين حين أعاد ابن عباس القصيدة حتى أتى على أخرها.
وكان سعيد بن المسيب من فقهاء المدينة يستمع إلى شعر الغزل، بل ويفاضل بين الشعراء الغزليين وكان عروة بن أذينة الفقيه تنسب إليه أشعار في الغزل والتشبيب بل كان فقيه المدينة ابن أذينة يضع الألحان بنفسه.
*المصدر : الحب عند العرب